في ما يشبه قصة موت معلن للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، جرت مراسم تبادل الاسرى بين تنظيم النصرة الارهابي والدولة اللبنانية بحضور اعلامي وصل الى مسافة تصوير حشوة اسنان الارهابيين والاسرى الذين تمت مبادلتهم، ولا اظن سابقة لهذا الامر حصلت من قبل، خصوصا في جانب توجيه الشكر لدولة خليجية بعينها ولجهاز أمنها وكذلك توجيه الشكر لدول واجهزة ثانية تقول انها تجابه الارهاب للجهود المبذولة في الافراج عن الاسرى او اتمام عملية التبادل، المسافة المقطوعة في عملية التبادل قصيرة للغاية ولكن المسافة الاخلاقية المهدورة في الخنوع للارهابيين ومفاوضتهم بهذه الطريقة تصل الى مسافات يمكن قياسها بالسنوات الضوئية، الارهاب كان اكثر تماسكا وصلابة ووحدة من مقاوميه خصوصا بعد الافراج عن زوجة زعيم العصابة الارهابية داعش في صفقة قادتها النصرة تلك الجبهة التي تردد انها على صدام مع الدواعش وصل حد القتل والتكفير او تبادله على اقل الاحوال.
ما تناهى من اخبار ان وجود فضائية بعينها كان اشتراطا لجبهة النصرة الارهابية ويؤكد صدقية ذلك حجم مسافة وصول كاميرات تلك الفضائية الى المسافة صفر، وسط ترديد الارهابيين لهتاف التكبير والله والاسلام منهم براء ، لكنها صورة تحمل كل الايحاءات السوداء وستحتل مساحة واسعة على خرائط دماغ كثيرين شاهدوا صورة النصر الارهابي وربما نحتاج الى سنوات كي نغسل الادمغة من ظلال تلك الصورة ودلالاتها على اجيال رأت سردية ارهابية بصورة ايجابية دون اجابات او توضيحات لضرورة البث المباشر لحالة اذلال الانسانية جمعاء خاصة مع مشاهد الحنان الارهابي وافراده يقومون بتدفئة رؤوس الصغار تمهيدا لقطع رؤوسهم بعد اول خلاف على تصفيفة شعر او شراء علبة سجائر ، فالصورة كانت مشغولة بعناية فائقة كي تبرز الارهابي بصورة انسانية وقد اعتدنا على تلك الصورة في وسائل الاعلام الصهيونية وهي تمنح شارون الارهابي جمالا مضافا وتمنح الجندي العنصري ملامح وسامة وانسانية فائضة.
تفاصيل التبادل واشتراطاته من فتح ممر آمن للارهابيين وباقي التفاصيل ، تكشف عورة التبادل بكليته وتفضح المستور والمسكوت عنه في ظهور وتمدد تلك الحركات الارهابية التي تتصارع على دمنا ولحمنا وتتفنن في شكل انهاء الحياة ذبحا وحرقا وتفجيرا ودوْسا بالجنازير، وتكشف اكثر حجم تورط دولا واجهزة في استمرار الارهاب وتوفير اسباب ديمومته ، فما كان سرّاً بات مكشوفا بسفور فاضح ، فخطوة التصوير المعلن والبث المباشر خطوة مدروسة ومشغولة بعناية فائقة كي نبدأ ببلع الارهاب عبر بوابة تصنيفه كإرهاب جيد او ارهاب خبيث ، فالصورة تحتاج الى خبراء في فنون تكسير الحواجز النفسية وخبراء في الحرب النفسية كي تصل الينا بهذه المهارة والاناقة ، وسبق لهذه المدرسة تحقيق نجاح في اختراق العقل العربي الذي قبل بإمتنان ظهور المحتل الصهيوني مقابل الفلسطيني بل وبات ذلك مهنية وحيادية حميدة وفاتنا حجم الانتصار الذي تحقق للكيان الصهيوني حين غزا عقولنا وبيوتنا بعد ان غزا اوطاننا وطرد اهلنا.
اخطر اشكال الصراع هو الصراع في ملعب الافكار وأسوأ الهزائم تتحقق حين يدفعك خصمك للتفكير بمنطقه وعقله، وهذا ما يحدث الآن دون ادنى مقاومة او التفاتة، فقد نجح الارهاب ومن يقف خلفه في سحبنا الى التفكير بمنطقهم وعقلهم، وقبلنا ان نجلس ساعات ننتظر اغتسال المفرج عنهم وظهورهم بمظهر جميل دون أثر للاعتقال او الخطف ، فالعملية جرت في اجواء حميمة وسط دبكات وزغاريد اهالي المعتقلين او المخطوفين وهذه لحظة انسانية لا يمكن ادانتها او ادانة فرحة اهالي العائدين فلا احد يهون عليه شاب في مقتبل العمر فكيف اذا كان اخا او ابنا، فالادانة للحالة ولشكل الخروج من الاعتقال او الخطف والادانة الاكبر للسماح بظهور الارهاب بشكل مهيب وانيق وبحالة انتصار ، وكأن التبادل جرى بين دولتين او تبادل ناجم عن عملية مقاومة افضت الى مرمغة انف الاحتلال، والادانة لغياب الاسئلة عن سر موانة دولة او جهاز على تنظيم ارهابي وغياب السؤال عن غياب قوات تدخل سريع تحسم عملية الافراج عن الاسرى وتبطش بالارهابيين.
ما حدث في عملية التبادل وما شاهدناه على الهواء مباشرة يكشف المسكوت عنه او المرفوض البحث فيه عن انصار الارهاب واعوانه وسادته الذين يوظفونه لحساباتهم حتى تشابه علينا الارهاب وكنا قبل ذلك من الغافلين.
الدستور