«في الوطن» لبن جلون: شيخوخة وحدة وعمالٌ مهاجرون
mohammad
02-12-2015 03:00 AM
ابراهيم العريس
في العام 1977 وكان لا يزال في بداياته، عرّف الكاتب المغربي باللغة الفرنسية الطاهر بن جلون، القراء إلى كتاباته وأفكاره من خلال ذلك الكتاب النفسي – الطبي، الذي لا يزال حتى اليوم واحداً من أهم الكتب التي تحدثت عن العمال المهاجرين في شكل عام والعمال المغاربة الذين يقيمون ويعملون في فرنسا في شكل خاص: «أقصى درجات العزلة». يومها حقق هذا الكتاب نجاحاً كبيراً. غير أنه في المقابل لم يوحِ أبداً بأن صاحبه سوف يصبح بعد حين واحداً من أهم الروائيين العرب في اللغة الفرنسية، بل حتى واحداً من أبرز الأدباء «الفرنسيين» المعاصرين، تشهد على هذا جائزة «الغونكور» الرفيعة التي نالها قبل أكثر من ربع قرن عن رائعته «الليلة المقدسة» قبل أن يصبح لاحقاً عضواً في لجنة تحكيم هذه الجائزة التي تعتبر أهم جائزة أدبية تمنح في فرنسا، مرة في كل عام.
حين أصدر بن جلون «أقصى درجات العزلة»، برز كمناضل في سبيل العمال العرب المهاجرين وفاضح للقمع النفسي الذي يتعرضون له. وطوال عقود بعد ذلك، توجه إلى كتابة الروايات ولكن ضمن إطار خط فكري ظل ذلك النضال من علاماته، بمعنى أن القسم الأكبر من رواياته ظل مطبوعاً بذلك الهاجس... لكنه بالتدريج ومع الوقت أضاف إليه هواجس أخرى، لعل في مقدمها الشيخوخة والعودة إلى الوطن ومسألة الهوية والعائلة (وهي مواضيع أساسية في أعمال له مثل «ابنة الرمال» و «الليلة المقدسة» و «يوم صامت في طنجة» و «نزل الفقراء») إضافة إلى هموم فكرية عالجها في كتب له غير روائية أصدرها بين رواية وأخرى (مثل «في مدح الصداقة» و «العنصرية كما أشرحها لابنتي»)...
قبل سنوات من اليوم، وإذ اقترب الطاهر بن جلون من عامه السبعين، وأصبح وراءه عدد مهم من الكتب التي ترجم معظمها إلى عشرات اللغات، ولكن ليس دائماً إلى العربية (!)، وحققت مبيعات مدهشة، أصدر رواية جديدة، أثارت فور ظهورها في المكتبات حينها موجة عارمة من الاهتمام. عنوان الرواية هو «في الوطن». أما مصدر الاهتمام الاستثنائي بها، فكمن في أنها تكاد تكون ملخصاً جامعاً لكل هموم بن جلون وصنوف رواياته وكتبه الفكرية. ولكأن الكاتب أراد هنا، من ناحية، أن يرسم بموهبته الروائية الفائقة صورة لأفكاره ورصده لحياة العمال المهاجرين، مترجماً إلى حد ما، مضمون كتابين له على الأقل هما «أقصى درجات العزلة» و «يوم صامت في طنجة»، ومن ناحية ثانية، وضع وصية فكرية – إنسانية – اجتماعية، بل سياسية حتى، تقول وفي شكل قاطع الكلمة الفصل في كل ما جوبه به طوال حياته الأدبية من التباسات وضروب سوء فهم، بل معارك اضطره البعض إلى خوضها تنطلق من مزاعم وإشاعات.
المهم، بتلك الرواية الجديدة «في الوطن» أضاف بن جلون إلى رصيده، وقتها عملاً أدبياً لافتاً، عرف فيه كيف يزاوج تماماً بين ما بقي لديه من مفاهيم علم النفس الجماعي التي طبقها على مرضاه ومعارفه في كتبه العلمية، وما تراكم لديه من نفس روائي مدهش. وهذا كله يقدمه بن جلون من خلال حكاية محمد الشخصية المحورية في الرواية. فمن هو محمد هذا؟
هو عامل مغربي أمضى أربعين عاماً من حياته يشتغل في فرنسا بكل نزاهة وأمانة، ضارباً الصفح حتى عن كل الإهانات وضروب العنصرية التي كان يتعرض لها، مثله في هذا مثل عشرات الألوف من مواطنيه الذين عرفوا المسار نفسه والمصير نفسه، والذين كان بن جلون نفسه تحدث عنهم وعن معاناتهم في العديد من كتبه وبخاصة، طبعاً، في «أقصى درجات العزلة» حيث كان الحديث علمياً يدور في فلك التحليل النفسي الجماعي. أما الآن حين تلتقطه الرواية فإن محمد دخل سن التقاعد ولم يعد لديه بالتالي ما يفعله في حياته اليومية. وعلى ضوء هذا الواقع الجديد تتضافر التجربتان: تجربة العمل في فرنسا وتكوين العائلة فيها، وتجربة ولوج زمن الشيخوخة. ففي هذا النص الذي يُروى لنا غالباً بلسان محمد نفسه، محمد الذي يبدو على الفور شخصية طالعة من بعض فصول وملامح العديد من شخصيات روايات بن جلون، في هذا النص يبدو محمد كمن بوغت بوصوله إلى التقاعد، وكمن يسأل نفسه: لماذا أتوقف عن العمل وأنا ما زلت قادراً عليه؟ إنه سؤال محيّر. لكن ما يفوقه حيرة هو تغيّر النظر إلى محمد الآن. إذ ها هو يكتشف أن أولاده الذين رباهم على مكارم الأخلاق ومبادئ الدين القويم، لم يعودوا يعرفونه. بالكاد يمكنه التفاهم معهم. وهم بالكاد يمكنهم أن يفهموا جوهر مشكلته. أو لماذا لم يعد قادراً الآن على البقاء في فرنسا. فهذه، بمجتمعها الديناميكي كان يمكن أن تكون شبه وطن له حين كان يشكل جزءاً من ديناميكيتها أي حين كان يشتغل، أما الآن فإنها لم تعد وطنه على رغم السنوات الأربعين التي عاش فيها أميناً هادئاً مخلصاً لعمله... بل لم يعد جسده جسده، كما أن أولاده لم يعودوا أولاده. يقول: «ماذا بي... إن آلاماً عضلية تكاد تقتلني مع أنني لا أشتغل. أحس آلاماً في مفاصلي. أشعر كما لو أن جسدي هزم، ويشتغل عليه تعب غريب. ماذا بي... أنا أبداً في الماضي لم أعرف مثل هذا التعب. ربما لأنه تعب يأتي من لا شيء. من العدم. ذلك العدم التي وطّد مكاناً له في حياتي وبدأ ينخر أعضائي وأطرافي. إن الفراغ يحفر قلبي. إنني أتألم غير أنني لا أشكو أبداً. فأنا لم تكن الشكوى من عاداتي... ولكن منذ صرت على التقاعد لم تعد الأمور على ما يرام...».
فما العمل؟ ببساطة يقرر محمد وزوجته أن يعودا إلى الوطن. هناك حيث سيجمعان التعويض إلى بعض المدخرات إلى قرض ما، ليبنيا بيتاً كبيراً... كبيراً جدا ًإلى درجة أنه سيتسع لهما وللأولاد المدعوين إلى الحضور. وبالفعل ينفق محمد ما يملك على بناء البيت الذي يطلع من بين يديه – وهو العامل الماهر عادة – بيتاً جميلاً رائعاً. ثم يجلس وزوجته في الانتظار. انتظار ماذا؟ الأولاد مثلاً... فالأولاد هم الذين قد يصنعون لمحمد الوطن الحقيقي. ذلك أن هذه العودة إلى الديار، لم تتمكن على أي حال من تحقيق ما كان يأمله من إحداث تحسن جذري – أو بسيط حتى -، في وضعه النفسي أو الصحي... ومن هنا فإن الأمل بات الآن معقوداً على اجتماع شمل العائلة... غير أن الانتظار يطول وسيطول إلى الأبد...
نعرف طبعاً أن الطاهر بن جلون كاتب ناجح، وهو شخصياً لم يبد يوماً أن لديه مشاكل في التأقلم مع المهجر أو مع الوطن... ومع هذا ثمة كثر من بين النقاد رأوا أن في الرواية عنصراً ذاتياً أكيداً. ولكن، سواء أكان هذا صحيحاً أو غير صحيح من المؤكد أن صاحب «ابن الرمال» و «الليلة المقدسة» قدم هنا عملاً أخاذاً... حزيناً وعميقاً، عملاً يدفع إلى التساؤل: ماذا بعد؟ ماذا بعد بالنسبة إلى بن جلون نفسه كما بالنسبة إلى أوضاع العمال العرب في فرنسا؟ ففي ذلك الحين (العام 2010)، وقبل أن تتحول قضية الشبان المسلمين في فرنسا إلى قضية تتعلق مباشرة بالإرهاب وبالمهاجرين بالجملة، الذين يتحدث عنهم غلاة اليمينيين الفرنسيين المتطرفين وكأنهم أداة غزو إسلامي لفرنسا، كان الحديث يجرى من حول طرد السلطات الفرنسية لنحو 30 ألف أجنبي دخلوا الأراضي الفرنسية في شكل غير شرعي. ومن هنا حين سئل بن جلون عن علاقة روايته بما يحدث قال: «إن دور الكاتب يقوم في أن يشهد على ما يحدث، أن يسبر غور هذا المشهد الإنساني الجريح ليتحدث عن جراحه وضروب الظلم والنسيان التي تنهشه. والواقع أن ثمة، فيما وراء هؤلاء الثلاثين ألفاً من المطرودين، ملايين الرجال والنساء الذين لا يمكن القول أن حياتهم حديقة غناء تزينها الأشجار المثمرة. ومن هنا فإن ما همّني في هذه الرواية هو أن أصوّر شخصاً تائهاً، يربكه بزوغ التقاعد في حياته المؤطّرة. وما هذا الشخص سوى بطل روايتي القديمة «الانطواء في العزلة» وقد شاخ وصار ذا زوجة وأطفال. صحيح أنه مغربي ولكن يمكنه أن يكون آتياً من أي بلد آخر. أما حكايته فحكاية هزيمة مكتملة».
الحياة اللندنية