تاريخيا , ظل " الفقر " وما زال , المحرك الرئيس والسبب المباشر لويلات الشعوب , وشيوع الفوضى بين اوصالها, وخروج الامور عن سيطرة حكوماتها . ذلك واقع لم يتغير ابدا , وإذا ما كان الجياع هم من غيروا وجه التاريخ في أزمان غابره , فإن الفقر بمفهومه العصري الحديث , هو السبب والمسبب في تفجر ما سمي بالربيع العربي الذي تعاني دول عربية عديدة مرارته حاليا , سواء تلك المنخرطة في خضم ذلك الربيع القاحل , او تلك التي تتموضع جغرافيا على حوافه , او سياسيا في مدخلاته ومخرجاته .
أردنيا , لا يمكن إنكار او تجاهل حقيقة اننا بلد يعاني جراء فقر تتسع رقعته كل يوم , وبالذات في مناطق الاطراف التي تفصلها عن المركز ليس مسافات بقدر ما هي إهتمامات , هذا فضلا عن حواشي المدن والارياف والمخيمات حتى وإن كانت في قلب المركز او عند حوافه , وهو فقر ما زال مجبولا حتى اللحظة بسمة التعفف والإستحياء والترفع عن مجرد إظهاره , وبالتالي التظاهر إجتماعيا بنقيضه تحت قناعة الصبر, عل الامور إلى إنفراج في وقت ما .
من اعراض هذا الفقر المؤذي وفي أي مجتمع كان , معاندة العامة للقانون والنظام العام , وتكاثر القتل والإنتحار والشجار لأتفه الاسباب , وتنامي ظاهرة تعاطي المخدرات , وإنحسار منسوب ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها , وعزوفه عن متابعة إعلامها الرسمي , وولعه بمتابعة الإشاعات وتصديق رواياتها , وسخريته من كل إنجازات الدولة حتى وهو يلمسها بالحواس , وتدني إهتمامه بالمناسبات الوطنية والتفاعل الإيجابي معها , وتشكيكه بكل إجراء رسمي يتخذ , والإسراع في تبرير مراميه , بإعتبارها تصب في خدمة مصلحة خاصة لا عامه , وتكاثر الهمس بعيدا عن رقابة السلطة وعيونها أحيانا , والجهر بمادة الهمس في أحايين أخرى .
ومن أعراضه كذلك وخلافا للواقع المفترض , التنافس في الإسراف في المناسبات حتى لو أضطر المسرف للإستدانه , ففي ذلك نفي لعلة الفقر عند من يعانيها , ومن اعراضه السرحان النفسي والإنقطاع عن الواقع المعاش , وتعدد حوادث السطو والسرقة , وتنامي الحسد , وإنهيار المنظومة القيمية الإجتماعية , وتدني مستوى العلاقات العامة حتى في أكثر المجتمعات محافظة , وإشتداد التنافس على الرزق , إلى غير ذلك من الاعراض الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي تمحو مباديء التراحم والتواصل والتسامح بين العامة على إختلاف مستوى عيشهم وانماط تفكيرهم , وتفتح الابواب للترحم على الماضي والشكوى من الحاضر والتخوف من المستقبل , وتغول النفاق , وبالذات السياسي منه تحديدا .
تلك اعراض أكثر من قاتلة , لا بل ومرعبة إن لم تجد من وما يقهرها , بقرارات وإجراءات شجاعة وجريئة تنصب في مجملها على كبح جماح الفقر والفاقة , وتخلق بيئة إجتماعية عامة مريحة عنوانها العدل والعمل المنتج الذي يدر دخلا ينساب إلى جيوب العامة ويكفيهم مؤونة اليوم ومتطلبات العيش الكريم بكل تفاصيلها , من طعام وشراب وكساء ودواء وتعليم وسوى ذلك من متطلبات اساسية غير ترفيه . وبغير ذلك , يجافي الحقيقة من يتردد في الإقرار بوجود المعضلة إبتداء , ومن لا يعمل على حلها تباعا وبنهج مقنع يلمسه العامة في مستوى عيشهم . أما كيف ذلك وما وسيلته , فهذا يتطلب إجراءات غير عادية او تقليدية او حتى مألوفة من قبل , ومنها , وقف كل الإنفاق على المشروعات الخدمية القابلة للإنتظار لسنوات ومثلها مشروعات اخرى ترفيه , وتوجيه أموالها نحو زيادة مجزية مؤثرة في رواتب العاملين مدنيين وعسكريين , فهذا هو ما يحرك الاسواق وينشط الاداء الاقتصادي العام , وهذا هو ما يبعث على الارتياح العام ويرفع عن كاهل الدولة والمجتمع معاناة وكلفة الاعراض السابقة كلها , وللحديث بقية بإذن الله .