التلفزيون الاردني: كلمة اخيرة
الفرد عصفور
13-06-2008 03:00 AM
هل حان الوقت لقول الكلمة الاخيرة في هذا الموضوع؟ هناك بالفعل ناس لا يحبون النجاح للتلفزيون. في فترة ما من الثمانينات وحتى منتصف التسعينات كان التلفزيون الاردني هو القناة رقم واحد في المنطقة سواء في الاخبار او في البرامج. كانت هناك جدية في التعامل مع الموظفين ومع المسؤولين ومع الاحداث وكان التلفزيون يفرض احترامه على الجميع. بعد ذلك جاءت فترة المناكفات بين المدراء واستزلام الناس واستقطابات وتنفيعات وتعيينات بالواسطة. وعندما ظهرت الفضائيات خرجت الكفاءات لانها لا تستطيع العيش في بيئة مرتبكة وغير مهنية ومريضة.
اسشترى الفساد في المؤسسة وسادت الترهل والمحسوبية والفهلوة. انتشرت حالة من الاستهتار والنفاق وبيع الضمير. مرت فترة قصيرة جدا جرت فيها محاولة اصلاح الا انها لم تعطى الفرصة. وعاد الأمر الى ما كان عليه بل واسوأ من السابق. الان التلفزيون يعاني الاحتضار فعلا. ليس بحاجة الى اي مسكنات. بحاجة الى عمل جراحي قاس حاسم وحازم ولكن عادل ايضا.
الخطوة الاولى التي يجب ان تؤخذ هي اجراء دراسة للوضع الراهن تنطلق منها استراتيجية لمرحلة مقبلة تتضمن اعادة انشاء التلفزيون من نقطة الصفر. الاستراتيجية تشمل وضع جميع العاملين بدون استثناء على المحك واعادة تمحيص الكفاءات فمن كان يستحق البقاء في التلفزيون فليبق واما اولئك الذين هبطوا بمظلات الواسطة والمحسوبية والذين لم يتطورا ولم يحسنوا التعامل مع تقنيات التلفزة الحديثة فلينقلوا الى اماكن اخرى فلعلهم يبدعون فيها كما حصل بالفعل مع زملاء اخرين تم نقلهم الى دوائر اخرى وابدعوا.
من المعروف ان راس القاطرة في اي تلفزيون هي نشرة الاخبار فان كانت نشرة الاخبار قوية وجذابة واقرب ما تكون الى اهتمامات جمهور المحطة نهض التلفزيون وكسب جمهوره.
نشرة الاخبار يجب ان تتعامل مع قضايا الجمهور الاساسية التي تهمه وتثيره لا ان تكون مثل نشرة دعائية مكشوفة. ولغة الاخبار يجب ان تكون لغة موضوعية مباشرة لا لغة انشاء وصياغات تجميلية ومحسنات لفظية لا يقصد منها الا النفاق والتجمل والتزلف.
الان خطوات الحل معروفة وسهلة التنفيذ ويمكن تحقيقها باقل الخسائر اذا تم اتباع العقل والمنطق والحسابات الموضوعية في التعامل مع هذه المسالة.
قد لا اكون على معرفة مباشرة بالكثير من العاملين في التلفزيون وعلى الاخص في الاخبار في الوقت الحاضر لكن متابعة الشاشة يمكن ان تعطي فكرة اقرب الى الدقة عن تلك الكفاءات والمهارات المتوفرة الان. لن اعطي رايي فيما ارى على الشاشة ولكن بكلمة واحدة اقول: تنقصهم الخبرة. لماذا؟ لان تعاقب الاجيال المهنية في التلفزيون تعرضت لخلل كبير بسبب هجرة الكفاءات. فالمنتسبون الجدد إلى التلفزيون والذي جاء معظمهم بالواسطة والمحسوبية ولم يكن لديهم الاستعدادات اللازمة للتعلم لم يجدوا في الوقت نفسه من الكفاءات العاملة من ياخذ بيدهم ويدربهم ويجعل منهم الصف الثاني المؤهل لمتابعة العمل.
ولكن لماذا كانت هجرة الكفاءات؟ لم يكن الاغراء المالي في الفضائيات هو السبب الوحيد لتلك الهجرة. بل الشعور بالظلم والتحيز وعدم مبالاة الادارات المتعاقبة بقضايا العاملين سواء المهنية منها او الشخصية مما جعل استمرار العمل في ذلك المكان اشبه ما يكون بالموت البطيء.
لا ارغب بمزيد من التنظير. فالمشكلة واضحة والعلاج واضح وما نحتاجه هو قرار جريء ياتي في الوقت المناسب. بطبيعة الحال العلاج الجراحي الحاسم والسريع غير مرحب به في بلدنا. وغالبا ما ياتي بنتائج عكسية. ولانه لا بد من الجراحة فلتكن جراحة متمهلة ولكن بثبات وروية حتى تكون النتائج مثمرة.
مرت على التلفزيون الاردني مرحلة كان فيها التمييز واضحا لحساب المعارف والواسطة على حساب الكفاءة والخبرة. كثيرا ما سمعنا من مدراء كبار يقولون عن الذين لا يعملون ولا ينتجون: اتركوه ولا تطلبوا منه اي عمل. او يقولون : هل تدفعون راتبه من اموالكم؟
جاءت فترة كان هناك العشرات ممن يقبضون رواتب شهرية ولا يعملون وهم معروفون بالاسم والرقم. كانت هناك ايضا اسماء وهمية كشف عنها رئيس مجلس ادارة سابق.
خلاصة الحديث: ماساة التلفزيون بدأت فعليا منذ كان هناك قرار ساذج غير مدروس بدمج الاذاعة والتلفزيون في مؤسسة واحدة. هي مدرسة قديمة تعتقد ان الاذاعة والتلفزيون يمكن ان يعملا معا. الحقيقة ان هذه في طريق وتلك في طريق. قرار دمج المؤسستين خلق مؤسسة كبيرة ضخمة متخمة ومترهلة. واوجد ادارات متنافسة لا تدري باي اتجاه تسير. كان المدير العام ينشغل بمسائل ليست من اختصاصه فيضيع الوقت والجهد ويتجمد المدراء في دوائرهم ويمضي الوقت ويتورط المدير في مستنقع العمل اليومي والعلاقات الشخصية والتفاصيل غير الضرورية وتضيع هيبته ويخسر مكانته وتبدأ الحكومة في البحث عن مدير اخر يعيد الكرة ويقع في ما وقع فيه من سبقه.
الحل يبدا بمعالجة الغلطة الاولى: فصل الاذاعة عن التلفزيون فصلا مهنيا واداريا وماليا وتعيين مدير عام لكل منهما يرتبط بالوزير المعني. ويقوم هذا المدير العام بادارة العمل في مؤسسته من خلال مدراء للدوائر يكونوا مختصين في مجالات عملهم. ولا داعي لمزيد من التفصيل بهذا الشأن. فعندما نصحح الغلطة الاولى الاساسية سيتم تصحيح الباقي بصورة تلقائية.
الخطوة الثانية في العلاج هي التدريب. العمل التلفزيوني لا تنفعه كثيرا الشهادات ولا الهواية والرغبة وطبعا تدمره الواسطة والمحسوبية. واذا اردنا اعادة بناء التلفزيون لا بد من اعادة البناء من الاساس. فيتم استقطاب الكفاءات التي تركته لتضع الاساسيات والهيكلة المهنية الجادة ويتم فرز العاملين الحاليين ليبقى في المؤسسة من يملك الكفاءة الحقيقية فيخدم بها المؤسسة والبلد. بعد ذلك لا بد من استقطاب خريجين جدد يحملون شهادات مناسبة ولهم هوايات في هذا المجال وليس شرطا ان يكونوا خريجي اعلام وصحافة ولكن يجب ان يخضوا لتدريب مهني مناسب يؤهلهم للعمل في التلفزيون. بعد ذلك سيعود التلفزيون مدرسة كما كان وكما كنا نعرفه.
مرت على التلفزيون فترة لم يكن يتدخل في عمله احد من المسؤولين. صحيح كان وزيرالاعلام يعطي تعليماته في بعض الشؤون (وكان يقول انا ما قلتلكم) فهذا حق معمول به في كل مكان ان الوزير المعني يقود العمل في دوائر وزارته. ولكن فيما عدا ذلك لم يكن هناك تلك التدخلات التي تزايدت كثيرا في التسعينات وتفاقمت في السنوات الاخيرة. الان كل دائرة حكومية لها سطوة في التلفزيون وتفرض ما تريد ونرى الاخبار اشبه ما تكون بنشرة دعائية لاشخاص ومؤسسات مع ان الاصل ان تكون نشرة الاخبار مستقلة وموضوعية وحيادية.
اخيرا اقول ان الحل ممكن والعلاج موجود وان كان مرا والمسالة بانتظار القرار الشجاع الذي يخرج التلفزيون من النفق الذي يقوده إلى هاوية المجهول.
دبي ـ الامارات العربية المتحدة