ليكن معلوما بادئ ذي بدء، أنه لا مفر أمام كل صاحب ضمير في هذا الإقليم المنكوب بالحروب الطاحنة، من دعم وإسناد رجب طيب أردوغان في نزاعه مع روسيا إثر إسقاط الأتراك مقاتلة من طراز «سوخوي 24» في منطقة الحدود مع سوريا. غير أن هذا الدعم والإسناد يجب ألا يعني أن الرئيس التركي لا يخطئ، أو أنه فوق القانون. وفي ظني أنه ما كان يتعين على الأتراك أن يستجيبوا لاستفزازات الدب القطبي الذي يفضل لأسباب تتعلق بالهيبة العسكرية، تحميل المعارضة السورية مسؤولية إسقاط طائرته، وليس الدولة التركية.
ميزان القوى بين الجارين لا يتيح لأردوغان أن يطبق قواعد الاشتباك الحالية على السوخوي الروسية، وحسبما يتردد في الصحف التركية فإن هذه القواعد التي تم تعديلها عام «2013» لتصبح أكثر تشددا وصرامة بعد إسقاط طائرات بشار الأسد مقاتلة تركية ومقتل طياريها، طبقت بحذافيرها على السوخوي رغم عدم تأكد الجانب التركي ما إذا كانت الطائرة المستهدفة سورية أم روسية.
وإذ تضيف أنقرة أنها نبهت السوخوي عشر مرات خلال خمس دقائق، بأنها قد دخلت الأجواء التركية، فقد قبلت دول حلف الأطلسي الذي تنتمي تركيا إلى عضويته، رواية أردوغان، وإنْ كانت قد لامته في الغرف المغلقة لإقدام جيشه على تدمير السوخوي حتى لو حلقت لدقائق معدودة في الأجواء التركية المحاذية لسوريا، لأن عواقب إسقاط الطائرة قد تعني حربا بين موسكو والناتو.
وفضلا عن هذه الملابسات، فإن اللهجة التصالحية التي اعتمدها الرئيس التركي ورئيس وزرائه ووزير خارجيته منذ إسقاط الطائرة، تدل على نوايا حسنة، وعلى احتمال أن يكون قرار استهداف السوخوي بصاروخ تركي، قد اتخذ بعجالة ودون التأكد من هوية الطائرة.
ولم يعجبنا على الإطلاق تجاهل بوتين اتصالا هاتفيا من أردوغان بحجة أن الرئيس التركي لم يرفع سماعة الهاتف إلا بعد ثماني ساعات من إسقاط الطائرة، كما لم يعجبنا امتناعه عن الاستجابة لطلب الرئيس التركي عقد قمة بينهما في باريس اليوم أثناء حضورهما مؤتمرا حول المناخ.
«أعزاءنا الروس.. دعونا نخرج من هذه الأزمة»، هكذا بدأ كاتب تركي مقاله، مذكرا الجانبين بالحجم الهائل للمبادلات الاقتصادية والذي يقدر بعشرات المليارات. ولكن لا يبدو أن «أعزاءنا الروس» يريدون الخروج من الأزمة حتى لو أضرت بهم وباقتصادهم. وإذا كانوا قد أخطأوا عندما اتهموا تركيا بالتعاون مع الإرهابيين الدواعش، فقد أخطأوا أيضا عندما اتخذوا طبقا لمرسوم رئاسي قرارات كبرى تشمل منع تشغيل أي تركي في أي منشأة روسية، وحظر رحلات «التشارتر» وإعادة العمل بنظام التأشيرة بين البلدين.
الخطير في ذلك كله أن وقوف موسكو وأنقرة على طرفي نقيض تجاه الأزمة السورية، سيؤدي بعد مراسيم بوتين العقابية، إلى سريان حرب باردة مؤذية لكليهما. الأتراك عبروا عن الأسف والحزن، لكنهم لم يعتذروا.. وهم محقون في ذلك، لأن السوخوي - على أي حال - انتهكت أجواءهم، فتم إسقاطها.
الوطن