يكتب عن محمود الكايد .. شاهد على العصر ومؤثر فيه !
محمد الداودية
29-11-2015 04:50 AM
كان رهين سريره في المستشفى، مسجى، ليس في يده، لا السيجارة ولا الكتاب ولا القلم الأخضر، وقد كان "الجفر" في عزّه وجبروته وسمعته الرهيبة المرعبة، أخف دماً ووطأة وثقلا، من المستشفى، الذي تملأه باقات الزهور وأسراب الحمائم البيضاء الرقيقة، فهذا المحمود، استحوذ على محبة الناس، على تنوع اتجاهاتهم وجهاتهم، بجدارة واستحقاق.
التقينا مجددا لكن في مستشفى الخالدي، كنت اعاني من الام مزمنة تسمى (رقبة الصحفي !!) ويعاني ابو العزم من (قلب الصحفي!!) ومن مشاكل قال لي الممرض انه يقاومها بارادته لا بأدوية !
سألت محمودا: هل عرفتني؟
رد بثقة من يريد ان يثبت يقظته وعافيته: محمد ؟.
سألني الطبيب: هل عملتما معا؟
قلت: نعم؟ عملنا معا من اجل الحريات العامة وحرية التعبير وجلال الصحافة وهيبتها وكرامتها.
سأل: كنتما فريقا واحدا اذن.
قلت: هذا الرجل لا يتيح لأحد ان يقف ضده، يغمرك بدماثته ووده وصدقه ولا يترك لك هامشا لخصومته.
أول السطر أن محمود الكايد، كان كريما، جمع سجايا الكريم وخصاله، بوضوح:
1- الصلابة، فالكريم صلب إذ يقهر الإثرة وشحَّ النفس ويتغلب على قبضِ يده ، فيفكها من أغلالها ويطلق لها العنان لتبذل وتنفق وتجود وتتمتع بفضيلة السخاء والعطاء.
2- الشجاعة، فالكريم شجاع بالفطرة، يَجْسرُ على إنفاق المال العزيز على قلوب البشر، الذي قدمه رب العزة على البنين في قوله تعالى: "والمال والبنون زينة الحياة الدنيا"، وكأنما يدفع أذى، أو كأنما يخشى أن يفوته مجد، إن هو استجاب لوسواس قبض اليد.
3- التضحية، فقد انخرط محمود الكايد في شؤون بلده وشجونه، وتنكّبَ طريقا وعرا مهلكا قاده وهو ابن الثامنة عشرة إلى معتقل الجفر الصحراوي الرهيب في منتصف الخمسينات، حينما كان الجفر مقبرة المناضلين ولعنة الثائرين، يصليهم صفيحه، نار الله الموقدة في الصيف ويجلدهم في الشتاء بسياط الأربعينية وزمهريرها الذي " يقص المسمار".
ما جاءت تسمية ابنه البكر، عزمي، صدفة، وما نال لقب "أبو العزم“، بذخا!!
محمود الكايد كان ماكرا، ماهرا، معلما، بكل ما في الكلمة من شحنات ودلالات.
فقد تمكن من البقاء، وصمد وحمى عشرات الصحفيين، وحافظ على استمرار كتابات عبد الرحيم عمر وفهد الريماوي وطارق مصاروة وفخري قعوار وبدر عبد الحق، في تلك الحقبة العرفية السوداء، التي تولى الإعلام فيها، وزراء جبارون واحديون استئصاليون،. لم يَحِد عن نهجهم الترويعي، إلا وزيرا إعلام فقط هما، "ابنة النظام الأكثر إخلاصا منهم كلهم" السيدة ليلى شرف، و" ابن الدائرة "، الجريء، صاحب العقل الإعلامي المستنير، الأستاذ نصوح المجالي !!
لقد لاعب محمود الكايد، وزراءَ الإعلام ومدراءَ المطبوعات، بكل مهارة وشطارة، على رؤوس أصابعه، وأتقن فنونَ كسب الوقت، والقتالَ الناعم، وأُوتي طاقةَ تحمل وجلد لا تدانى، وناور ما وسعته المناورة، فمارس على وزراء الإعلام، اكبرَ عملية تضليل، وشاغلهم في أوسع ورشة مشاغلة، وصان الرأي التي كانت كرة نار يقلبها بين يديه ولا يرميها، ومارس خدعة "تمزيط الكلام "، إلى أن أطيح به، في الانقلاب الشهير على الرأي والدستور، ذلك الانقلاب الذي وقف في وجهه فقط، صحفيو صحيفة الحكومة "صوت الشعب" الذين وقّعوا وحدهم عريضة استنكار وشجب لذلك القرار العرفي !!
وقد تغلب أبو العزم على قصر القامة مطبّقا قول الشاعر:
إذا كنت في القوم الطوال علوتهم
بعارفة حتى يقال طويل.
ولم أر كالمعروف أما مذاقه فحلو، وأما وجهه فجميل.
واني لا أخزى إذا قيل مملق
سخي، وأخزى أن يقال بخيل.
وكنت تراه سيدا عملاقا ما أُخِذ عليه، انه ارتزق أو تاجر بالمهنة وبالصحيفة الأولى، وما عُهد عنه انه مد يده وقبض، من سفارة أو منظمة أو دائرة. وما عرفنا لمحمود الكايد خصما ولا سمعنا أن له كارها، فقد افتتن الصحفيون به، ولما ترشح للانتخابات نقيبا لهم أول مرة، نالها بالتزكية، وكان حضوره بسيطا وطاغيا لا يقاوم، وكانت سمعته فواحة عطرة، كرئيس تحرير إنسان وأخ للصحفيين، يذود عنهم و يقف معهم ويساندهم ماديا ومعنويا.
وكانت " الرأي" ، نقطة ضعفه وكعب أخيله، آثرها على الآخرين، صحيفة وصحفيين، وانحاز لها انحيازا كليا، وجعلها "حزبا انكشاريا "، دانت له بالولاء والطاعة العمياء والتبجيل المستحق.
محمود الكايد عَلَمٌ من أعلام بلادي، وهو مقطع عرضي للأردنيين الوطنيين الوحدويين، المتجردين المتطهرين من ضلالة الجهوية وجهالة الطائفية وعماية الإقليمية، ظل مناضلا صلبا في مسيرته كلها، فمثلما ابتدأ باذلا ذاته في سبيل قناعاته، ظل مناضلا صلبا في "الرأي"، صانها من الابتذال و لم يسلم خطامها لأي وزير إعلام، مما اقتضى عزله !! وفي مرضه، تميز أبو العزم بروح الفكاهة والكفاح، وصلابة الفتى الذي ظل في الجفر، راسخا شامخا، رافضا مقايضة قناعاته ب "استنكار" حزبه، ورافضا بلا هوادة إعلان "البراءة" منه للحصول على "الإفراج"، وما "شَمَرَ" خبزا من البراءة !!
محمود الكايد نموذج، ليس للتقليد، فقد ولّت الأحكام العرفية بحلوها ومرّها، ولم يعد من أمل أو من مجال، للنضال على طريقة محمود الكايد التي لا تُحْتمل، فقد أصبح الجفر واحة غنّاء !!
انه نموذج للإنسان الذي يستطيع أن يعبر حقل الإغواء دون أن يعلق بحذائه شيء منه.
ما اكبر الإنسان عندما يصمم أن يظل حرا نبيلا مثلما ولدته أمه. لا بل ما أكثره
خاص ب عمون .