تحول الموقف الأردني نحو روسيا ، والتغيير في الإستراتيجية الأردنية أمر لم يعد خافيا على المراقبين للموقف المتشعب في الشرق الأوسط، والتفسير السطحي الذي يتبناه البعض من أن كل هذا ليس سوى تكتيكات وأن موقف الأردن الثابت مع الغرب و تحديدا أمريكا هو موقف ثابت غير قابل للتغيير ، وهو محكوم للجغرافيا السياسية التي تفرض على الأردن أن ينظر باتجاه الغرب قبل أن يحدد كل قراراته واستراتيجياته ، ونحن نعلم والدولة الأردنية تعلم علم اليقين أن تكتيكات ساذجة لا يمكن أن تكون خطوات ناجعة مع دولة عظمى كروسيا وهي تملك خيوط اللعبة السياسية والأمنية السورية بالكامل تقريبا.
لا شك أن الملك عبد الله الثاني قد قرأ الخريطة السياسية الإقليمية جيدا ، ورأى التراجع والارتباك في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ، كما قرأ المناكفات التي تحصل بين أعضاء الإتحاد الأوروبي والخلافات التي بدأت تدب بين أعضاء حلف الناتو أيضا، وربما استشرف مبكرا أن العالم مقبل على قرارات حاسمة جديدة لا بد أن تقدم عليها الدول الكبرى والدولة الأكثر أهمية في الاقتصاد والسياسة و بالتالي فإن الدول الصغرى لا بد أن تتخذ مواقف جديدة تكون ملائمة للأوضاع التي ستستجد قريبا، والغرب براغماتي لا يتردد في تغيير مواقفه تبعا لتغير مصالحه ، و هو دائما مستعد لإيجاد التبريرات للمواقف الجديدة التي يكون مضطرا لاتخاذها ، ولسنا بحاجة إلى إيراد أمثلة على ذلك فهي كثيرة جدا هذه الأيام و ليس أخرها التحول الأمريكي عن السعودية لإيران.
التوجه الأردني نحو المواقف الروسية أمر في غاية الذكاء والشجاعة، و ما رسو البارجة البحرية الأمريكية ارلنغتون إلى العقبة إلا خطوة أمريكية لإرباك الموقف الأردني ربما لأن الأمريكيين باتوا يشعرون أن حلفاءهم باتوا يتملصون منهم بعدما رأوا المواقف الأمريكية المترددة أمام الدب الروسي القادم بقوة إلى الشرق الأوسط وسوف نرى في الأيام المقبلة مدى التوغل الذي ستحدثه السياسة الأردنية الجديدة تجاه الموضوع الروسي الذي بات مختلفا عنه عما كان عليه قبل بضعة أشهر قليلة ، صحيح أن هناك خلافات في الحلف الروسي الإيراني إلا أن المصالح التي تجمع الطرفين أكبر من حجم الخلافات التي حدثت وبالتالي فإن الروس سوف يكونون قادرين على إغلاق الثقوب التي تحدث في سفينة حلفهم الشرق أوسطي.
التهديدات الصريحة التي وجهتها روسيا اليوم عبر صحيفة برافدا تقلب الموقف بصورة حادة ومفاجئة و إذا لم يصدر مواقف جادة و صريحة من الحلفاء الغربيين دعما لدولتين خليجيتين فإننا على أبواب تغيير استراتيجي غاية في العمق في المنطقة و ستكون الهزات الارتدادية قوية للغاية على أكثر من صعيد .
وسنرى الفوضى تعم المنطقة بصورة لم يسبق لها مثيل، ولا أظن أن ما يحدث أمرا منسقا و متفقا عليه بين الدول العظمى و أن ما يفعله الروس ليس إلا بداية لمشهد متوافق عليه وإن كان الأمر كذلك فالخاسر الأكبر بكل الأحوال سنكون نحن أيضا و نحن هنا أعني العرب وليس الأردن.
بكل الأحوال التقارب الأردني مع روسيا يبقى خطوة ايجابية و في صالح الأردن ، و هي على الأقل تجعله أكثر قربا من مركز الحدث والقرار الأكثر أهمية لأن الدول الغربية بعدما حدث في باريس تبدو هي أيضا مرتبكة و هناك ضغوطا شعبية هائلة في أوروبا تحض الدول على الانسحاب وعدم التدخل في الشأن العربي و الإسلامي حتى أن أحد كبار المفكرين الفرنسيين طالب الدولة الفرنسية بتوقيع هدنة ووقف لإطلاق النار مع تنظيم الدولة وهذا أمر يحتاج لتحليل معمق بحد ذاته ، و الدول عليها أن تراعي مصالحها و مصالح شعوبها.
من الحكمة أن ينظر الأردن إلى الموقف بصورة عملية تجنبه مخاطر ما يحدث من ألاعيب بين الدول العظمى ، و من المشهود للأردن قدرته على حسن التقييم للمخاطر و إيجاد المخارج في الوقت المناسب و اليوم نحن بحاجة إلى كل البراعة التي اكتسبناها في السنين السابقة كي لا نكون لا سمح الله حطبا لنار أحد في الإقليم وحتى نحافظ على الأمن الذي يتمتع به الأردن.
لن يكون الموقف الأردني سهلا فهو يقع بين متناقضات كثيرة جدا و شركاء و أصدقاء و حلفاء متورطين في ملفات متشابكة و متناقضة و بالتالي فإن كل طرف في الإقليم يريد من الأطراف الأخرى أن تكون معه و معه وحده ، و هذا يجعل من الفعل السياسي أمرا في غاية الصعوبة و يجعل من مفردات و تقنيات العمل الدبلوماسي كمن يسير على حبل في سيرك و عليه أن يسير إلى نهاية الطريق دون الوقوع عن الحبل.