نعرف جميعا أن معظم الجمهوريات القائمة الآن في عالمنا العربي, ولدت إما
على يد قابلة الانقلابات العسكرية المظفرة التي كانت تتوجه عند الفجر إلى
محطة الاذاعة أولاً لتنهي الحكم الملكي القائم , أو على يد الطبيب
الاستعماري, الذي ينسحب مخلفاً وراءه فضاءً مفعماً بالفراغ غير القابل
للإمتلاء, بغير قوة العسكر الطامحين إلى كراسي الحكم, مدفوعين بشهوة
السلطة . والإستثناء الوحيد هو لبنان الذي امتلك إرثاً حضارياً, ساعده
على بلورة حياة ديمقراطية – وإن تكن ناقصة ومثلومة – لكنها أبقت العسكر
بعيدين عن منزلقات العمل السياسي , مكتفين بوظيفتهم ومؤدين لواجبهم
الوطني .
بعدها تصارع العسكر مع السياسيين , وحين تم لهم التفرد بالحكم , تصارعوا
فيما بينهم , بطرق لايمكن وصفها إلا بغير النظيفة , فقد شملت الإبعاد
القسري عن البلاد , والاغتيالات المغلفة بورق السوليفان , ومثال العراق
ما يزال حاضراً , ودم رفاق صدام الذين اغتالهم لينظم لهم جنازات مهيبة لم
تزل خضراء , والسم الذي سرى في عروق المشير عبد الحكيم عامر نتيجة
اختلافه مع عبد الناصر ما زال يبحث عن الجواب المستحيل , أين كل الصداقة
والتحالف بين الرجلين , وهو الذي أتاح لهما التخلص تدريجياً من رفاقهم في
مجلس قيادة الثورة ؟ . ولسنا بصدد تعداد حالات خيانة الرفاق لأنها عصية
على الإحصاء لكثرتها وللسرية المحيطة بمعظمها .
في المرحلة التالية تفرد أكثر الضباط قسوةً بالحكم , ولأن ثقته برفاقه
الذين ساعدوه على الوصول معدومة أو هي شبه ذلك , فإن الحل يكمن في الرجوع
إلى حماية العائلة والعشيرة والمنطقة التي تحدر منها القائد , وكل هذا له
ثمن كان الزعيم يدفعه لكل هؤلاء على حساب بقية أفراد الشعب المنكوبين
بحكمه , والذين عليهم عيش تجاربه في الإقتصاد والسياسات الخارجية ,
والسير مغمضي الأعين لتلبية طموحاته التي تجاوزت في العادة حدود القطر
الذي يحكمه , لتقترب – تحت شعارات القومية – من الأقطار المجاورة , أو
تنطلق ساعية لأن تكون تجربة عالمية , ليس مهماً أن يعيش الشعب حالة فقر
مدقع , لتصرف أموال الدولة على ترويجها في مختلف أرجاء الكون , مرةً عبر
الإعلام , ومرات من خلال تنظيمات مسلحة ثورية أعلنت ايمانها بتلك النظرية
بحثاً عن التمويل , أو من خلال إغراء بعض الضباط الطموحين, بالإنقلاب
على النظام الذي يعيشون في ظله , لتحقيق الوحدة الفورية , أو الاندماجية
, أو ما شاكل ذلك من تسميات ثبت لاحقاً أنها خالية من المضمون , وأن
مطلقيها هم أبعد الناس عن الإيمان بها .
ولأن المال والبنون زينة الحياة الدنيا, ولأن الزعيم الثائر شبع أموالاً,
تكفي أفرادعشيرته وطائفته وورثتهم , للعيش أغنياء لمئات السنين, فإنه
لابد أن يكون للأولاد نصيب متميز عن الآخرين, ولو أنهم لم يقدموا شيئا ,
لمصلحة الوالد, أو لمصلحة الوطن, باستثناء استعراضات بلهاء, يصفق لها
الإعلام المملوك لحكومة السيد القائد, وهذه الحصة الأبوية , ليست أقل من
أن يرث الفتى, الذي يتميز عادة بالطيش والغرور, أو بالقسوة المفرطة
الناجمة عن امتلاكه مفاتيح السلطة والقوة , كرسي الوالد في الحكم , بعد
ان ناضل الرجل طويلاً للوصول إليه , والتمتع بمزاياه.
ولعل أول من ابتدع هذا التقليد الساري المفعول, هو صدام حسين , الذي
تنازع ولداه بصمت على وراثة كرسي الحكم , لكنه لم يتمكن نتيجة لجنون
العظمة الذي تلبسه , من توريثهما , غير الرصاصات التي أودت بحياتهما ,
بينما كان هو يختبئ , في مكان مجهول .
نجاح التجربة في موقع, أعطاها دفعة, في عقول الراغبين بتكرارها , بعضهم
أوصل إبنه ووريثه إلى موقع متقدم عسكرياً, بغض النظر عن قدراته في هذا
المجال, في حين سعى آخر لوضع وريثه في الموقع الحزبي الذي يؤهله للوصول –
بديمقراطية – إلى سدة الحكم ليورثها لإبنه من بعده, ومؤكد أن ذلك لايتم
برضى المواطنين, أو بعد استشارتهم, لكنه واقع قد يكون مفيداً تثبيته في
دساتير الجمهوريات العربية, بعد العودة بتسمياتها إلى ملكيات, وهو ما
كانت عليه, أو اللجوء إلى تسمية جديدة مشتقة من الجمهورية والملكية ,
ولتكن الجملكيات .