الشرق الأوسط القديم يهتز!
محمد الرميحي
21-11-2015 11:54 AM
بذل الفلاسفة والمفكرون جهودًا مضنية وصرفوا ردحًا من الزمن، لمحاولة الإجابة عن سؤال يتمحور حول: لماذا يعجز الإنسان عن الاستفادة من دروس التاريخ؟ بل ويكرر الأخطاء تقريبًا نفسها، مما يجعل التقدم الإنساني على شكل حلزوني، طالع هابط، وليس على شكل صاعد دائمًا باطراد كما هو متوقع، عدم الاستفادة من دروس التاريخ تضاعف الأثمان الغالية التي تدفع من الموارد وحياة البشر على مر العصور، بسبب تقدم العلم، فالحرب التي كانت تحصد آلاف البشر أصبحت اليوم تحصد الملايين. حقق العلماء في المنهج الذي يوصلهم إلى فهم تلك الأحجية، فوجدوا مبدئيًا أن ثمة حقيقتين (بشريتين) تتحكمان في ضعف الاستفادة الإيجابية من دروس التاريخ؛ الأولى هي هامش الفرق بين (الحقيقة) السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، كما هي على الأرض، وبين فهم وقناعة أغلب الناس حولها! والثانية هي أن البشر يفسرون الأمور في الغالب من وجهة نظر مصلحتهم! وليس أكثر من تلك الحقيقتين المتداخلتين وجودًا في مواجهة الإنسان العربي، الذي تشهد دوله اهتزازًا وتفكيكًا في شكلها القديم داميًا ومشتتًا، على الأقل في الخمس سنوات المضطربة التي مرت علينا حتى الآن. فهناك حقائق موضوعية يرغب البعض أن يتجاهلها، أو أن ذلك البعض يفهمها بالطريقة التي تناسبه، بصرف النظر عن العوامل الموضوعية التي تحرك دينامية الأحداث على الأرض وتفعل فعلها.
بعد التلخيص لندخل في الموضوع. أفضل ما يلخص ما نواجهه كعرب يشير إلى التغيير، ظهر في مكانين؛ الأول منتدى صير بني ياس، الذي أصبح علامة فارقة في الجهد النقاشي الجاد والمنظم والصريح للبحث عن الحقيقة السياسية على مستوى مساحة فضائنا العربي، وعلاقتنا بالعالم، واللقاء يفرض على من يساهم فيه عدم الإشارة إلى المتداخلين أو نسبة الأقوال للأشخاص، كما يعرف اليوم بقواعد «تشاتم هاوس»، وبالتأكيد كاتب المقال سوف يتقيد بذلك. لا شك أن النقاشات بينت بلا ظلال شك أن الوضع العربي «شائك وربما خطير» وأن حرب استنزاف قد تكون طويلة المدى تخاض ضدنا باتجاه تفكيك القائم، وتركيب المحتمل، كما أن التدخلات في شؤون المنطقة من لاعبين كثر، فاقت أي مرحلة سابقة، مع تزامن تبعثر الرؤى العربية وغياب البوصلة المحلية، بسبب كل ذلك غابت معالم طريق الخروج من المأزق. ما خرجت به شخصيًا أن النقاشات كانت كاشفة لحقيقة المأزق، وهو أن هناك قليلاً من رجال الدولة، وكثيرًا من السياسيين في ساحتنا العربية، والفرق بين الاثنين، أن الأول يراعي مصالح أمته في التفكير والتنفيذ، والآخر يراعي مصالحه الذاتية أو بالكثير مصالح من حوله! افتقاد رجل الدولة هو تلقائيًا أفقدنا معالم الطريق، ويعرض مصالح العرب الكبرى للمخاطر.
أما المكان الثاني الذي يلخص ما نحن فيه، فهو علني يختصر لمن يريد أن يفهم بعض تعرجات ذاك النفق المعتم الذي يسير فيه العرب، وأقصد موضوعات العدد الأخير من مجلة «الفورن أفيرز» الأميركية (تصدر كل شهرين وواسعة النفوذ).
في عدد المجلة الأخير موضوعان يهماننا في هذه المنطقة، ويكفي الإشارة إلى عنوانهما للتدليل، الأول بتصرف: «شرق أوسط دون أميركا!»، والثاني: «داعش دولة ثورية». في الموضوع الأول امتدت الكتابة على مساحة ملف كامل يتكون من عشر مقالات ناقشت من زوايا مختلفة ما سمته «بداية تحرك التغيير في الشرق الأوسط» ودور الولايات المتحدة تجاه حركة التغيير. الاهتمام بهذا الملف ينبئنا بأن موضوع «الولايات المتحدة والشرق الأوسط الجديد» قد وضع قيد البحث والمناقشة وبرزت التساؤلات حوله من أجل البحث عن إجابات! لم يعد سرًا أن الولايات المتحدة لأسباب خاصة بها من حيث الاقتصاد ومن حيث فشل التدخلات الخارجية والكلفة البشرية والمالية لها، لم تعد مكانًا يركن إليه، كما حدث حتى في السنوات القليلة الماضية، من أجل التدخل واستخدام نفوذها السياسي أو قوتها العسكرية للردع أو الإغراء أو حتى التهديد للقوى الطامحة في توسيع نفوذها على حساب الغير في منطقة الشرق الأوسط. ويُوصف الانسحاب الأميركي من المنطقة على أنه «ضرورة أكثر منه خيارًا» كما يلاحظ الملف العلاقة الحميمية الجديدة التي تربط واشنطن بطهران، إلى درجة أن لقاء جون كيري وزير الخارجية الأميركي (المرشح لجائزة نوبل للسلام) مع المذيع فريد زكريا المقرب إلى الديمقراطيين، بعد هجوم باريس، في محطة «سي إن إن»، الأسبوع الماضي، قال كيري: سوف نلجأ إلى التشاور مع (شركائنا) في الشرق الأوسط لدحر «داعش» ومنهم طهران! وتتحول طهران في غضون شهور قليلة من حال «اللانظام» في عيون الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، إلى حالة «النظام» المُعتمد عليه للتشاور والقابل للمعاونة في دحر «الفاشية الجديدة» على حد تعبير جون كيري، التي تعني الحركة «السُنية المتشددة» وهي تطال بالضرورة أغلبية المسلمين في الشرق الأوسط وما حوله وحكوماته، كونهم سنة! التي يلصق فيها التشدد بسهولة، طاويًا هذا الموقف الجديد صفحة وجود إيران على قائمة وزارة الخارجية الأميركية على أنها من الدول «الراعية للإرهاب» ومتجاهلاً أعمال حزبها (حزب الله) الذي لا يزال على تلك القائمة!! إذن الجغرافيا السياسية من حولنا تتغير والتحالفات أيضًا، وما أن يبدأ التعشيق لتطبيق الاتفاق حول الملف النووي الإيراني - الغربي، حتى تبدأ طهران بإظهار نياتها في أي سياسة سوف تُسلك، وهي الآن تمهد للظهور على المسرح لبيع فكرة شيطنة الآخر على أنه «تكفيري» وأنها «ملاك» (شريك في محاربة الإرهاب)! الذي أساسه «سُني»! والنابع من دول غير قادرة على ضبط قطاع من شعبها أو غير راغبة في التغيير. من جديد مع تجاهل مشترك إيراني - غربي للأسباب التي جعلت من هذا الإرهاب يتفشى، وهي السياسات القمعية لدول التحالف العربي مع إيران؛ أي سوريا والعراق ضد مكون مهم وكبير من شعوبهم!!
أما موضوع «داعش دولة ثورية» وهو المقال الذي نشر في العدد نفسه، فيحتاج إلى أن نتوقف عنده. يقول الكاتب لماذا تثيرون هذا الضجيج وتستغربون هذا العنف الذي يقوم به «داعش»، هو في الحقيقة عنف «ثوري» استخدمته الثورة الفرنسية والثورة الروسية (البلشفية) وحتى الثورة الإيرانية (من بين عدد آخر من الثورات) في بدء تفجرها! وعادة ما يستخدم هذا العنف المفرط لتثبيت أقدام «النظام الجديد»! الكلام السابق محاولة لتهيئة الأذهان في قبول دولة جديدة، تمتد بين العراق وسوريا (عملية تفكيك وتركيب)! تكون لأهل السنة، وقد تحتاج تسمية جديدة! عندما يفكر أحد ما في هذا الطرح يجد في التاريخ المعاصر شيئًا من التحليل القريب إلى المنطق، فقد كانت منظمة التحرير هي «منظمة إرهابية» حتى قبل سنوات ثم أصبحت مقبولة، وحركة طالبان التي كانت «حركة إرهابية» إلى وقت متأخر، قد تتأهب اليوم إلى الحكم أو على الأقل المشاركة في الحكم في أفغانستان، ومنظمات وقوى أخرى حول العالم، بدأت «إرهابًا» وانتهت «دولة»! يشير الكاتب إلى شعار «داعش» أنها «باقية وتتمدد»، فـ«داعش» ليست عبثًا كما يعتقد البعض، ولكنها تمهيد لغيرها!!
الدروس المستفادة من كل ما تقدم أن البناية الخالية يمكن إشغالها بسكان جدد، وهذا ما يظهر اليوم في الفضاء العربي. لم يجد العرب أنفسهم إلا في متاهة خلافات قاصمة للظهر، على أمور ثانوية، تهدد بأن تهدم البناية على رأس كل من يسكن فيها، في غياب قراءة صحيحة للواقع تمتثل لمتغيراته. مجمل ما نوقش في صير بني ياس، ونشر أيضًا في «الفورن أفيرز» يؤدي إلى فهم أن هناك مطالب لبناء الدولة الحديثة ضاغطة على المحور العربي الذي يحتاج اليوم إلى رجال دولة يتطلعون إلى ما أبعد من محط أرجلهم.
آخر الكلام:
ليس جديدًا في التاريخ خوض الحروب على مشارف خطوط الفصل الثقافية والدينية، فمآسي الهواجس الدينية وحروب الهويات تركت بحارًا من الدم منذ أهوال محاكم التفتيش في إسبانيا وحتى حرق الآمنين في بيوتهم في فلسطين، ولم تتعلم البشرية حتى الآن تخطي تلك الخطوط بسلام!
الشرق الاوسط