عامان على رحيل فاطمة طه "أم جلال"
13-11-2015 10:33 PM
عمون- بعيدا عن ألم فراقها، وفي الذكرى الثانية لوفاتها، أحكي وأصف لكم أمي، رحمها الله، تماما كما هي في الحقيقة وكما هي حاضرة في ذهني اليوم.. فقد غاب عن ذهني مشهد المرض، وظلت صورتها في أجمل حالاتها ولحظاتها.
لم تكن أمي، رحمها الله، امرأة مسكينة، أو ضعيفة، أو مغلوبة على أمرها، كما يظن البعض، بل كانت قوية في إرادتها، في صبرها وحتى في صمتها، وما كان سكوتها في أحلك المواقف إلا عبارة عن قوة أعصاب جبارة لا يمتلكها أقوى الرجال.. فقد كانت تبرئ الجرح بهدوئها وحلاوة لسانها، بحكمتها وعزيمتها، وأذكر فيما أذكر، أنني في كل مشكلة كانت تصعب عليّ، كنت ألجأ إليها، ليس لأكدرها بل لأنه لا يستطيع امتصاص غضبي وحزني سواها، بأسلوبها الجميل اللطيف، وهو ما جعلها ملجأ للكثير من الجارات والصديقات، اللواتي يفضين لها بخفايا قلوبهن وأسرارهن فتخفف عنهن بحلاوة وعذوبة كلامها، وهذا الدور الكبير لا يستطيع أن يقوم به سوى شخص يحمل قلبا كبيرا وحبا للناس والخير، تماما مثل أمي.
كانت أمي، رحمها الله، امرأة متعلمة مثقفة، فكانت ضمن أول دفعة خريجي "التوجيهي" في القدس، وتسلمت شهادة الثانوية، من الملك الراحل الحسين بن طلال رحمه الله، وأهلتها هذه الشهادة للعمل في وزارة الزراعة الأردنية بعمان، قبل أن تتزوج والدي، حفظه الله، وتغادر معه إلى السعودية، حيث عملا معا في التدريس.. كانت تدرسني مادة اللغة الانجليزية، وتصحح لي مواضيع التعبير باللغة العربية، قبل أن أتخرج من كلية الصحافة لتصبح أول قارئة لموادي الصحفية، وموثقة ومؤرشفة لهذه المواد مع ذكر اليوم والتاريخ..
من أحب اللحظات إلى نفسي، تلك اللحظات التي كنا نجتمع فيها في جلسة عائلية، حيث نقوم، والدي ووالدتي وأنا وإخوتي جميعا، بمبارزة شعرية، وتتفوق أمي علينا جميعا، بما تحفظه من أبيات شعر مع حفظ الشاعر والقصيدة.. كانت تمتلك ذاكرة قلما يوجد لها مثيل، إذ تحفظ أرقام الهواتف عن ظهر قلب، وتحفظ تواريخ ميلاد الجميع، كما تحفظ أسماء الأدوية التي تتناولها، على كثرتها، في أمر يثير استغراب الأطباء والممرضين.
كل مشكلة، كان لها حلول عند أمي، وأهم هذه الحلول هي الصبر، بالطبع، فهي مدرسة في الصبر والشكر وحفظ النعم، بل إنها مدرسة في كل شيء، في الحكمة، في الحب، حب العائلة والأقارب والآخرين، في فعل الخير، في الإحسان، وفي الإيمان، فقد كانت تؤمن بالقدر خيره وشره، وهو ما جعلها راضية دائما بقضاء الله وابتلاءاته الكثيرة وأولها المرض.
عندما نتحدث عن اللياقة، والإتيكيت، أجد أمي حاضرة في ذهني كنموذج أصلي، لا يقبل التقليد، سواء في الملابس أو تناول الطعام، كل ذلك قد يبدو عاديا.. لكن لطفها في محادثة أبنائها واستئذانهم عند الدخول أو الإيقاظ أو المكالمة على الهاتف، ما زال يأسرني حتى بعد وفاتها.
ربما أطلت الكلام، لكن بالحديث عنها، يسيل لعاب القلم، وتنهمر الكلمات، ومع ذلك تتقزم وتتلعثم أمام اسم أمي، وذكرى أمي.. رحمك الله يا أمي وأسكنك فسيح جناتك، وجعل الله نفسك عنده راضية مرضية.
إبنتك: فداء فضل طه