في صغرنا، وفي مثل هذا الوقت من العام، كانت تنشغل والدتي بحياكة أجساد دمى قماشية، هياكلها أعواد المثلجات الخشبية أما أحشائها فهي على الأغلب ما تبقى من ملابس قديمة، إستسلمت بعد عمر طويل و ارتداء تتابع لأجيال عديدة !!!. بتلك الدمى وحدها كنا نشغل عبث طفولتنا إلى آخر يوم في العطلة الصيفية، لم نطلب أكثر من ذلك، ربما لإننا نعلم حينها بأنه ليس هنالك ما هو أكثر.
أما فيما بعد فقد دخلت مغامرات محمود سالم حياتنا الصبيانية لتعفي والدتي من عبء صناعة الدمى ولتحل مكانها قراءة الألغاز بشخصياتها البرجوازية. أذكر حينها أن قراءة كتاب منها لم يتوقف عند المغامرة فقط، فقد كانت أجواء الصيف في حديقة منزل" تختخ" الوارفة تستوقفني للحظات طويلة، كانت تأسرني، ربما كنت لوهلة أشعر بطعم عصير "الليموناده" الباردة وقطع الحلوى و "الجيلاتي" التي كانت تعدها "الشغالة" للمغامرين الخمسة. على كل حال كانت تلك اللحظات وحدها كافية لتجعلني استمتع بنكهات صيف وهمية على صفحات من ورق بلون الشمس.
كان الصيف يتلو الآخر، وأعمار كزهر الربيع تطوي أيامها بعجالة لتنضج كلمح البصر، ربما تخللها زيارة لأحد الأقارب أو رحلة عفوية مع العائلة لحرش فقد خضرته على عجل أو حضور تعاليل عرس من ألفه إلى يائه، نزيد به مخزوننا من تراويد وأهازيج تنطلق بفرح من أفواه العجائز قبل الصبايا، عرس نشحن به عواطف لا حول لها ولا قوة. وبين ذاك وتلك كان للكتاب نصيب للعدو بتلك الأيام، فتهنا بصحراء "مدنها من ملح"، ورزحنا تحت رطوبة الكاريبي في زمن اجتاحته "الكوليرا"، وذبنا مع من ذابوا بصهريج تحت "عين الشمس" الحارقة. هكذا مرت فصول الصيف المتكررة، وبتنا على ما نحن عليه.
للكثيرين، كان الصيف فرصة لزيادة دخل الأسرة، كالعمل بالحقل والمزارع، أو ربما في ورشة للميكانيك أو للطراشة أو حتى الجلوس على قارعة الطريق لبيع حلوى بسيطة من صنع منزلي، فأي مبلغ من المال مهما كان متواضعا قد يسهم في متطلبات البيت غير المنتهية.
اليوم، حين أقلب صفحات الصحف اليومية، أراها لا تخلو من إعلانات لمكاتب السياحة والسفر، تعد بأجمل الرحلات وأمتعها، برا وبحرا وجوا، وتفتح الباب ليكون البيت بيتنا ولتضع العالم بين أيدينا، أما إعلانات النوادي الصيفية، والتي تكتظ برامجها بنشاطات متنوعة: لغات ،سباحة، ركوب خيل، أو رحلات ترفيهية، يساورني شك باحتمالية تطبيقها جميعها بتلك الحيثية الموصوفة في سطور الإعلان، لا أدري ولكن يظهر أن العطلة الصيفية أصبحت باب إنفاق واسع لا يغلق أمام رغبات الأبناء وربما الأمهات وحتى الأباء، على كل أحمد الله أن تلك الإعلانات لم توجد على صفحات الصحف التي كان يتأبطها والدي جنبا إلى جنب مع كيس الخبز الساخن عصر كل يوم في صغرنا.
الكثير من الرسائل تصل متأخرة، ولربما تلك الرسالة التي مفادها أن العديد من أبنائنا سيبقون دوما خارج اهتمامات المعنيين وصلتني متأخرة. لن أطالب بين كلمات السطور بملاعب خضراء ولو كانت مروية بمياه مرهونة، يرمح فيها طفل جنوبي باغته عشق لكرة القدم، ولا بمسرح أطفال يعرض براءة ومرحا لطفل زرقاوي تاه في فوضى المكان وازدحام الهواء. لا لن أطالب بمسابح رمزية الدخول يتراشق ماءها اللجين طفل بدوي شبعت رمال الصحراء من قدميه العاريتين، ولن أطالب بمتحف للأطفال ولو كان مدعوم الفكرة والمنشأ لطفل حوراني انحصرت متعته بزيارة لشارع "الجامعة" وربما التهام لفة "شاورما" باركتها يد وافد مصري، لن أطالب كما طالب الكثيرون من قبل، لأن تلك المطالب تحتاج لصانع أحلام لا لقرارات تتخذ على الورق.
سيبقى الصيف يأتي كل عام في موعده، سيستقبله البعض بقلم عريض وملون، يحصر بدوائر يصنعها إعلانات سفر جذابة احتلت مساحات شاسعة من الصحف اليومية، وسيستقبله بعض كما كنت أستقبله قبل سنين مضت، وآخرون ما زال الصيف بالنسبة لهم تلك الفرصة التي لا تعوض لكسب القليل من المال فيهيمون على الورش للبحث عن عمل أو يزرعون صندوقا من الكعك على خاصرتهم يتيهون به صباحا بين الأزقة والشوارع