توفيق النمري فـي عيده التسعين؛ أين كُنا و .. كيف صرنا !
عبد الله ابورمان
08-06-2008 03:00 AM
يصادف يوم بعد غد الثلاثاء، العيد التسعون لميلاد الفنان الأردني الكبير الأستاذ توفيق النمري، أمدّ الله في عمره. و هي مناسبة تستدعي التعبير، أوّلا، عن بعض الوفاء لهذا الفنان الكبير، الذي أوقف حياته كلها، لخدمة الأغنية الأردنيّة؛ جمعا وتدوينا وإنتاجا و إشرافا. و هي كذلك، فرصة حقيقيّة للمراجعة، و قراءة واقع الأغنية الأردنيّة، اليوم، ودورها.. في ضوء التاريخ القريب، عندما كانت الأغنية بمثابة رسالة إعلاميّة متكاملة، و فنا ملتزما، موظفا لخدمة الأردن وقضاياه.
في خمسينيات القرن الفائت، تنبّه صانع القرار الأردني الى خطورة الدور الذي تلعبه الأغنية في توجيه مشاعر الناس، وصياغة الوجدان الجمعي. ولذلك، أبدى المسؤولون الأردنيون عناية خاصة بالأغنية. ووجّهوا الإذاعة الأردنية لتقود مهمّة تأسيس لون أردني في الفن والغناء. و كانت المهمّة جسيمة، وصعبة؛ فالتراث الأردني مشتت، وشفوي، ولم يكن قد تمّ جمعه؛ والأغنية السياسيّة الناصريّة تغزو الوطن العربي كله، وتجعل من فرص المنافسة شبه مستحيلة. وبالرغم من ذلك، فقد كانت الإرادة السياسيّة والإعلاميّة الأردنيّة صارمة ودقيقة، وكان لا بدّ من إنجاز المهمّة بنجاح لا يحتمل النقيض.
بدأ توفيق النمري، من هنا، مهمّته، في جمع وتدوين التراث الفلكلوري الغنائي، من كافة مناطق الأردن. وكان لعمله السابق في الجيش أثر كبير على تسهيل مهمّته، سيما وأنه جمع سابقا شيئا من هذا التراث ودوّنه. وكان لمتابعة رئيس الوزراء، آنذاك، الشهيد هزاع المجالي، المباشرة، و إصرار مدير الإذاعة، حينها، الشهيد وصفي التل، على تنفيذ المهمّة، وتوظيف الأغنية في معركة الدفاع عن الأردن؛ الدورُ الأكبر في تذليل الصعاب وحشد كافة الإمكانات لجمع التراث وتحديد ملامح اللون الأردني، الأصيل، في الفن والغناء.
من ناحية أخرى، أدرك القائمون على هذه المهمّة، أن المنافسة ممكنة، وليست مستحيلة، وأن التركيز على الخصوصيّة الأردنيّة، و استقاء الصور والألحان والمفردات واللهجة، من حياة الناس اليوميّة، ونمط إنتاجهم الذي صاغ ثقافتهم الاجتماعيّة؛ سيربط بين المواطن الأردني، في كافة مواقعه، وبين الأغنية الأردنيّة، إن استطاعت أن تعبّر عنه، وتترجم حياته وآماله وخصوصيّته غناء وطربا.
و كانت المفاجأة، أن الأغنية الأردنيّة لم تنجح محليّا فحسب؛ ولكنها انتشرت عربيّا، وصارت سببا في نجاح مطربين عرب أقبلوا على غنائها. وكانت أغاني توفيق النمري، بالذات، الأكثر شيوعا وانتشارا، وقد تنافس المطربون العرب الكبار على إعادة غنائها، مثل وديع الصافي وسميرة توفيق ونجاح سلام وغيرهم.. وقد تعدّى دور النمري الغناء أو التدوين فحسب؛ فكان يكتب الكلمات ويقوم بتلحينها، لنفسه ولغيره. وقد زاد حجم إنتاجه الفني عن ألف أغنية. وهو رقم ضخم جدا، ويحمل مؤشرات واضحة.
كانت أغنية النمري منوّعة وفي كافة المجالات؛ فمن اللون العاطفي، المعبّر، المنتمي الى البيئة و حكاياها وأمسياتها وعلاقاتها، الى اللون الحماسي التعبوي، الى الأغنية الوطنيّة المنوّعة. وكان الأبهى: هو الحضور الملفت للمكان الأردني في أغنية توفيق النمري؛ إذ لا يكاد يوجد مكان واحد لم يذكره النمري في أغنياته، من الفحيص الى ناعور الى بير الطيّ الى نهر الأردن والأغوار و وادي السلط.. بما يذكرنا بشاعر الأردن الخالد عرار، وارتباط شعره العضوي بالمكان، و لكأن علاقة صوفية، من الاتحاد والحلول، نشأت بين المبدع والمكان.. وربما لا يعلم كثيرون أن الفنان توفيق النمري هو من أصدقاء عرار، وكان في بداياته يغني لـالندامى، روائع الطرب العربي، مثل: يا جارة الوادي، وما زال يذكر تفاصيل من أمسيات الطرب والسمر في الحصن وإربد، مع عرار وأصدقائه.
الحديث عن توفيق النمري، طويل، وجميل. وهو حديث عن زمن جميل، وعطاء قدّم هذه المنجزات. وهو حديث يذكرنا بـضمّة ورد و كثير حلوة عيشتنا و ريفيّة وحاملة الجرّة و يا بو الخير و مرحى لمدرّعاتنا و حسنك يا زين و يا صبّابين الشاي و لوحي بطرف المنديل، وغيرها المئات من الأغاني التي ما زالت حاضرة في ضمائرنا. ولكنه، أيضا، لا بدّ أن يكون عن الواقع الذي آلت إليه الأغنية الأردنيّة، وهذا الازدحام المعيق، لكلمات وألحان ومفردات، لا هي منا ولا نشعر بأي علاقة لنا بها! عندما كان النمري وعبده موسى وسلوى وجميل العاص و اسماعيل خضر، يبدعون ويطربون؛ كان هناك مؤسسة واحدة، ترعى، وبالأساس: تجيز هذه الأعمال، وهي مؤسسة الإذاعة الأردنيّة، بمعايير صارمة، و رسائل مقصودة ووظائف محدّدة.. ومع متابعة يوميّة من أعلى المستويات السياسيّة. وكان كتاب الكلمات من الكبار الكبار، على مستوى الشعر والأدب و العمل الإعلامي والسياسي، من نمط: حسني فريز و رشيد زيد الكيلاني و ابراهيم مبيضين، رحمهم الله جميعا، وأمدّ في عمر أستاذنا جورج حدّاد، الذي كتب كلمات أجمل أغانينا.
و اليوم، تنفلت القصّة من كل عقال، وتفقد رسائلها و قِيَمها، وتقوم مكاتب تجاريّة صغيرة منتشرة بإنتاج ما هبّ ودبّ، ويكتب الموهوب وغير الموهوب، ويغني صاحب الصوت الجميل و ذوو الأصوات العجيبة الغريبة. وتضيع هويّة الأغنية الأردنيّة، وتخسر لونها.
تكريم توفيق النمري، في عيد ميلاده التسعين، واجب. وهو واجب وطني و ثقافي، وتجري الاستعدادات، الآن، لإخراجه على نحو لائق. و لكن، ثمّة مهمّة أخرى، هي في صميم الواجب، ولا بدّ من القيام بها، وبإخلاص، ألا وهي: استعادة الأغنية الأردنيّة و بهائها وزمنها الجميل.
abdromman@yahoo.com
الراي