ربما تساهم زيارة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي, المتأخرة, إلى عمان الأربعاء المقبل في حفزها على تحديد بوصلتها تجاه جارها الشرقي المخترق أميركيا وإيرانيا, قبل استحقاق معاهدة أمنية بين واشنطن وبغداد, يتوقع أن تنتقص من السيادة العراقية وتهدّد الإقليم.
فعمان, شأنها شأن غالبية العواصم العربية, لا تريد ترك العراق وحيدا يتأرجح بين الاحتلال الأميركي المباشر والإيراني الميداني, وسط مخاوف من استمرار أجواء التوتر والفوضى لعشر سنوات مقبلة على الأقل. السيناريو الأسوأ قد يدفع لتقسيم العراق فعليا إلى ثلاثة كيانات: شيعية وسنية وكردية موالية على التوالي لإيران, القاعدة وإسرائيل.
لكنها متوجسة من عدم وضوح الحكومة العراقية الحالية تجاه ملفات متعددة منها المصالحة الداخلية والتمدد الإيراني في العراق, على نحو لا يوحي بأدنى ممانعة رسمية من حكام بغداد. كذلك هناك شكوك حيال حدود العلاقة المستقبلية مع أميركا في بلد كان وفّر ما بين عامي 1980 و 2003 عمقا استراتيجيا, سياسيا, أقتصاديا, وأمنيا عربيا للمملكة.
ثنائيا, تطالب المملكة المالكي بإظهار نوايا حسنة من خلال تنفيذ الاتفاقيات الموقعة منذ عام لتزويد المملكة بجزء من احتياجاته النفطية بأسعار تفضيلية, ومنحها دورا واضحا في عملية إعادة بناء العراق والتراجع عن أوامر حكومية تشجع الاستيراد والتعاملات التجارية عن طريق إيران والكويت وسورية بدلا من الأردن. إلى ذلك ترغب عمّان في تعاون عراقي أكثر حيال إقامة أكثر من 500 الف عراقي في الأردن منذ حرب أميركا على هذا البلد.
الخطاب الرسمي ما يزال يرى في العراق عمقا استراتيجيا ورافعة اقتصادية ملّحة. ويرغب الأردن في تمتين العلاقات مع ثالث أكبر شركائه التجاريين وإقناعه بمد الجسور مع محيطه العربي.
الأردن يرغب بضمانات من أن توقيع المعاهدة الاستراتيجية مع أميركا لن يكون على حساب دول الجوار.
في المقابل تواجه عمان, كسائر العواصم العربية, ضغوطا أميركية قوية لإعادة فتح سفاراتها في بغداد وتقديم دعم سياسي-أمني-اقتصادي لحكومة المالكي المتهاوية, وذلك قبيل الانتخابات الأميركية والعراقية إضافة إلى مطالب بعدم عرقلة المعاهدة الإشكالية المتوقع إنجازها أواخر تموز.
فإدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش تحاول تحسين موقفها في العراق حتى يتمكن المرشح الجمهوري من الفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة. ولهذا بدأت بالضغط على الدول العربية لإرسال سفراء إلى بغداد لإيهام الرأي العام الأميركي بأن الأوضاع في العراق تتحسن باستمرار.
يساعدها في ذلك غياب موقف عربي فاعل لتحقيق رغبة أعضاء الجامعة العربية المعلنة في رؤية عراق قوي موحد, كامل السيادة, ومستقر امنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا بعد خمس سنوات من "الفوضى الخلاّقة" التي جلبتها إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش للعراق وللإقليم.
فكل دولة عربية باتت تغنّي على ليلاها في شرق أوسط متصدع تتصارع فيه واشنطن وطهران على بسط نفوذهما بين أطرافه. والجميع يقف عاجزا عن ممارسة الضغط على حكومة المالكي لتوضيح موقفها حيال العلاقة الغامضة مع إيران وأميركا.
السعودية, ومصر, دول الثقل العربي, تقف خارج المشهد لأعتبارات داخلية وخارجية. غالبية دول الخليج تغازل إيران, كلا على حدة, لحماية مصالحها أو اتقاء شر ملاليها, بينما تعيش دمشق المتحالفة مع إيران أجواء نشوة سياسية بعد انتصار حزب الله السياسي في لبنان وبدء مفاوضات سلام غير مباشرة مع إسرائيل وتخفيف قيود العزلة السياسية الغربية.
أستبق الأردن زيارة المالكي بإلاعلان قبل أيام عن النية لإرسال سفير إلى بغداد, متجاوزا تحفظات كثيرة على الحكومة العراقية التي لم تلتزم باستجابة مطالب عمان الأساسية قبل إيفاد سفير إلى العراق.
القرار الأردني كان استجابة لضغوط أمريكية مباشرة اشتدت مرة أخرى قبل ستة أسابيع خلال الاجتماعات التي عقدت في البحرين حول العراق والتي ضمّت دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن (6+2). وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس استغلت تلك الاجتماعات لتجديد مطالبة دول الإقليم المترددة بإعفاء العراق من ديونه واستئناف التمثيل الدبلوماسي مع بغداد.
على أن هذا القرار يساعد عمّان على شراء الوقت, وكسب رضا الجميع, بإنتظار نتيجة فحص نوايا المالكي. فهناك فرق بين إعلان نوايا وبين قرار الإرسال الفعلي.
يوم الخميس وصل وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد أل نهيان إلى بغداد - وهو أول خليجي يزور العراق منذ 2003 وعد رئيس الدبلوماسية الإماراتية بتسمية سفير لدى العراق. وهناك مبادرات مماثلة لمصر والسعودية والكويت والبحرين بينما يستعد المالكي للقيام بجولة في إيران, تركيا, الإمارات والأردن.
لغاية الآن لم يصدر بعد أي تعليق رسمي أردني على مشروع "الاتفاقية" الأمنية التي أثارت غضب إيران وترفضها قوى سنية وشيعية مؤثرة في العراق ويرحب بها الأكراد. لكن واشنطن أرسلت وفدا إلى عمان بقيادة ديفيد ساترفيلد مستشار د. رايس للشؤون العراقية منتصف نيسان لإطلاع الأردن على ملامح المعاهدة الأساسية.
أثارت الملامح الاساسية, بحسب مسؤولين شاركوا في اللقاءات, مخاوف من فحوى ما تضمنته ثلاثة ملاحق تتعلق بالجانب الأمني والعسكري بما فيها تحركات الجيش الأميركي وإعفاء الجنود الأميركيين من المساءلة القانونية أثناء عمليات الملاحقة وفرض الأمن داخل العراق إضافة إلى بنود أخرى تنتقص من السيادة العراقية.
ما سرب منها يتحدث عن 400 قاعدة ومعسكر للجيش الأمريكي في العراق, تحاول أميركا الإيحاء بأنها ستكون قواعد مؤقتة وفق الصيغة التركية تجدد كل عام. لكن هناك مخاوف من أن تستوطن غالبيتها لمدد طويلة ما سيهدد الإقليم في حال اندلاع مواجهة عسكرية بين إسرائبل وإيران. كما تصر أمريكا على الاحتفاظ بحق السيطرة على الأجواء العراقية حتى 29 ألف قدم والحصول على تسهيلات مفتوحة على الأرض والسماء والمياه العراقية.
لو كان باستطاعة دول جوار العراق من العرب التحدث بملء الفم لأعلنوا رفضهم للمعاهدة وأصروا على العودة لمجلس الأمن للتمديد لوجود القوات الأميركية في العراق لستة شهور أخرى أو سنة, ما يعني تجاوز الإدارة الأمريكية الحالية. ولساعدوا أيضا على معالجة متعددة الأطراف في عملية إعادة بناء الأجهزة الأمنية بما فيها القوات المسلحة, بدلا من ترك العراق لرحمة الاميركان.
لكن المالكي وبوش بحاجة للرقص على أنغام المعاهدة, فيما غالبية الدول العربية تسعى للاحتماء والتأكد من أن واشنطن لن تشجع على مغامرة لضرب إيران قبل 20/1/.2009
بوش يريد توقيع معاهدة لتقوية دور مرشح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية نهاية العام الحالي وتسهيل مهمته في رسم سياساته الخارجية في حال فوزه. بالمقابل, واشنطن مستعدة لدعم المالكي صراحة من خلال انتزاع دعم دول الجوار العربي وإظهاره بمن يحاول وضع حد للدور الإيراني في العراق لتقوية وضعه الداخلي المنهار.
أما الأردن الرسمي فيجد نفسه في وضع لا يحسد عليه على جبهة أخرى. فعمّان ببساطة واقعة بين مطرقة انهيار فرص السلام بين إسرائيل والفلسطينيين وسندان الاحتلال الأمريكي لبلاد الرافدين مع تعاظم النفوذ الإيراني في المنطقة عبر بوابة العراق.
العرب اليوم .