طالبة جامعية .. وليست لصَّة
باسل الرفايعة
11-11-2015 05:26 PM
حدَثَ في جامعةٍ حكوميةٍ أردنية أنّ طالبةً دخلت إلى متجرٍ، وأخفتْ في حقيبتها بعضَ طعامٍ، وجرى ضبطها في تلبُّسٍ، لم تستطعْ معه الإفلاتَ، فأحيلت إلى لجنة تحقيق.
لم أستخدم فعلَ "سرقت". وقد يبدو الأمرُ مجرَّداً بأنَّه "سرقة" وأنها "لصَّة". عندَ تفتيش حقيبتها، كانت محفظتها خاليةً تماماً من أيِّ مال. واعترفت أمامَ المُحققين أنها لمْ تجد طريقةً أخرى لتأكلَ، فقد كانت جائعةً جداً، واستنفدت كلّ وسائل الاستدانةِ من زميلاتها، وَلَمْ يعدْ في وجهها ماءٌ لتريقه، وتعرَّضت كرامتها لأبشعِ صنوفِ الإهانة، فسرقت لأنها كانت "متضوِّرةً بشدَّة" ومكسورةً ويائسة.
ما صدَمَ المحققين أنها قالت، وهي تجهشُ، وتكادُ تختنقُ: لمْ يكنْ لديَّ أيُّ خيارٍ وأنا أتألَّمُ من الجوع. إمّا أنْ أسرقَ، أو أبيعَ جسدي (قالت عبارةً أخرى أشدّ وقعاً وصدمة). أرجو أنْ تعلموا ذلك، قَبْلَ أنْ تقرروا فصلي من الجامعة، ولستُ وحدي من يفعل ذلك، فهناك طالباتّ فقيراتٌ كثيرات في هذه الجامعة يعشنَ حياةً تتعلمُ منها القسوةُ دروساً في الرحمةِ والأسى.
هذه قصةٌ حقيقيةٌ، ولديَّ شهودٌ عليها. لمْ تُفصل الفتاةُ، لأنَّها وجدت من جرحتهُ آلامها، غَيْرَ أنَّ ثمةَ من يسرقُ في هذه البلاد، وهو ليس جائعاً، ويجرحُها ويجرحنا. ثمَّةَ من يستكثرُ على هذه الفتاة أنْ تدخلَ جامعةً، لتنقذَ عائلتها من الجوع والفاقة.
تنزفُ هذه الفتاةُ من إنسانيتها وكبريائها، وهناكَ من لا يعرفُ عنها شيئاً. لا طريقَ المواصلات اليوميّة إلى المحاضرة، ولا آخر مرّة اشترت فيها ثياباً، ولا كيفَ تدبَّرت عائلتها ثمنَ الكتب، وماذا يأكلُ أشقاؤها وشقيقاتها في البيت. لعلَّ البيتَ مجردُ مجازٍ يليقُ بالكتابةِ، ولا يصلحُ للحياة.
الظروفُ الاقتصاديةُ باتت تضغطُ بأذى على الأردنيين. تفاصيلُ الصورة مُغيَّبة. هناكَ من يُسوِّقُ جزءاً ضئيلاً عن نحو 3 في المئة من الناس، يترددون على المطاعم الفاخرة، ويذهبُ أبناؤهم إلى المدارس الأجنبية، ذات التجهيزات الفندقية، ويقتنونَ السيارات الفارهة، وما إلى ذلك من الثيابِ والحقائبِ التي نشاهدها في عروضِ الأزياء، فالغالبيةُ الساحقةُ من الأردنيين مُعدمة سحقتها غلاءُ المعيشة، أو من شريحة ذوي الدخول المحدودة، وهؤلاء فقراء أيضاً، ولا سؤالَ لائقاً عن أخبارِ الطبقة الوسطى.
كانَ الأردنيون يتوجهون إلى الإقراضِ الزراعيّ، لتعليم أبنائهم، ليسَ من أجل اقتصاد الريف. فالعائلاتُ تريدُ التعليمَ مهما كلّفَ الثمن، ومهما خلت البيوتُ حتى من الزيت والزعتر. الأردنيون الآن يبيعون أراضيهم، ليدفعوا نفقات التعليم الباهظة. الاستثناءاتُ لم تحلّ المشكلة في ظلّ الفقر الشديد، والمطالبة بإلغائها إنكارٌ للأسباب واستعلاءٌ يتجاهل الجذور.
ما العمل. صندوقٌ وطنيٌّ للتعليم. أم صناديقُ وطنيةٌ للخبز. فلسٌ من جيوبنا جميعاً، لكي لا تأخذ الفتاةُ طعاماً من ذلك المتجر، على غرار فلْس الريف الذي أضاءَ القرى. أم الأصحُّ والأحرى أنْ نتقي ضربةً أخلاقيةً شديدةً على رؤوسنا، ويعرف المسؤولون أنَّ خطط التنمية لا تُوضعُ في سهرات الفنادق، وأنَّ الكذبَ على السامعين الضجرين بالليبرالية الاقتصادية لَنْ يُنقذَ المجتمعَ ببناته وبأبنائه من السقوط في الدعارة والرشوة وسواها.
نحتاجُ حلولاً عامة. دائماً نتأخرُ في الوصول. أحياناً لا بأسَ بالجزئية والوقائية، فدفعُ بعض البلاء، خَيْرٌ من الاستسلام له. جامعة اليرموك فعلت ذلك، وأسَّست صندوق "الحاجات الطارئة للطالبات"، وهي تدفعُ للمعوزات منهن بعدَ دراسةِ أحوالهنّ 50 ديناراً شهرياً حتى التخرُّج، دون ربط ذلك بالتحصيل الأكاديميّ.
أموالُ الصندوق من تبرعات القطاع الخاص، ومن الموظفين الذين يرفدونه بـ20 ألفا سنوياً، وثمة شراكةٌ مع غرفة تجارة إربد، بإسنادٍ من موازنة الجامعة.
كلنا يُرِيدُ الأمن العام. كلنا يحرصُ عليه، ويتباهى به في هذه الغمّة القاتمة من حولنا. لكنَّ ما يتهدده باتَ أوسع من حقيبة طالبةٍ جامعيةٍ .. جائعة.