ظاهرة تعبيرية عجيبة، تَشيع في بعض أوساط الأردنيين، من شتّى منابتهم وأصولهم. وهي ظاهرة يمكن لنا أن نسمـيَها " لغة هيك وهيك ". وقد أسميتها لغةً لسببين.
أولهما قياساً على إطلاق النحويين على ظاهرة وجود فاعلين لفعل واحد لغة ( أكلوني البراغيث ). والثاني نابع من كوْن "هيك وهيك " طريقةً في التعبير ، وإن كانت تقول ولا تقول ، وتفصح ولا تفصح ، كملابس راقصة شرقية في فيديو كليب لمخرجٍ ( مشْ مْوَحّدْ الله ).
فإذا سألتَ المزارعَ الأردني، مثلا ، عن الموسم الزراعي الذي هو فيه ، مدّ أصابع يده اليمنى، هذا إنْ لم يكنْ (يسراوياً ) ، ثم فركها جهة اليمين، كمن يرفع شعلة صوبة ( فوجيكا ) ، وقال : (يعني .. هيكْ وهيكْ ) .
وإذا سألت (حسن) عن نتيجة ولده (خالد) في امتحان الثانوية العامة، وعن المعدل الذي حصل عليه، أنزل كتفه اليمنى قليلا، ثم قال لك: ( والله.. هيكْ وهيكْ) .
وإذا سألت الساكن الجديد في الحي عن طبيعة علاقته بجيرانه ، ابتسم ، وقال : ( والله يا سيدي، هيكْ وهيكْ ).
قد يقال: إن الهدف من مثل هذه الإجابات هو الرغبة في عدم الكشف والإفصاح عن أمور خاصة، أو آراء شخصية.
ولكن، لماذا إذا قلت لأحدهم: إن الطقس باردٌ هذا اليوم، قال لك ، وقد بدأ يرتجف ( إيْ واللهِ ..بَرْدْ ، موتْ ) .
ثم إذا فاجأته بعد خمس دقائق ، وقلت له وأنت تتمطّى : (اليوم ، الجو حلو دافئ . قال لك: وهو يكاد يَقُدُّ قميصه مِنْ قُبُلٍ وَدُبُرٍ، تعبيرا عن إحساسه بشدّة الحر : (الحمد لله ، اليوم دافئ من الصبح ، يا عمّي صيّفتْ، ما ظلّ فيها !! ) .
هل مثل هذه الإجابات تشير إلى أن بعض الناس يخشى طرح رأيه حتى في المسائل التي لن يخسر فيها ودّ أحد لو خالفه الرأي، أو أبدى تحفظّه على ما يقول ؟ .
هل يشعر هؤلاء أن ثمة مسؤولية ما ، سيتحملها أحدهم إذا أعلن رأيه الشخصي في أمر من الأمور التي لا تقدم ولا تؤخر ؟ .
أنا أستبعد الاحتمال الثاني . والدليل أن الواحد منا، قد يطلق تصريحا، أو يعلن عن عزم ما، أو يقول كلاما كبيرا وهو يدرك، تمام الإدراك، أن ليس بمقدوره أن ينفذ ما أعلن عنه، ويدرك، أيضا، أن الناس واثقون من أن ما قاله مجرد (مَعْطْ حَكي ).
وكي لا يفهم هذا الكلام على غير وجهه، أو حتى قفاه المقصود، فإنني أورد هذه الحكاية من حكايات قريتنا.
ففي أواسط الستينيات من القرن الماضي عندما لم تكن السيارات قد انتشرت في قريتنا بعد ، اجتمع كبار أهل القرية والموسرون منهم ، وقرروا شراء " بِكْ أبْ " ليعمل كوسيلة نقل عمومية ، تربط القرية بمدينة السلط .
ونجح المسعى ، وصار (البِكْ أبْ ) ، أو ( البكم) ينقلهم إلى المدينة ، ويعيدهم منها ، يقوده ( أبو علي) السائق المتقاعد برتبة عريف من القوات المسلحة.
وكان أبو علي ، رحمه الله ، يحظى باحترام الجميع ، لما يقدمه لسكان القرية من خدمات ربطهم بالمدينة ، لتسويق منتجاتهم الزراعية بشقيْها: النباتي والحيواني،وشراء ما يلزمهم من حاجات ، إضافة إلى نقل طلبة القرية الدارسين في مدرسة السّلط الثانوية.
ذات يوم ، حدث سوء تفاهم بسيط بين ( أبي علي)، سائق ( البكْ أبْ )، وفلاح فقير من القرية، اسمه ( عواد السليمان ) . فما كان من (عواد السليمان) إلا أن حلف يمينا مُغَلّظَةً فحواها أنّ زوجته ( فِضّةْ ) طالق بالثلاث ، إنْ هو لم يَـبِـعْ حِمَارَيْهِ الاثنيْن : ( الأسمر ، وأبو إذِنْ مَقْطوشَة)، ويَشْتَـرِ بثمنِهما " بِـلِـيّة " ، مثل تلك التي يقودها أبو علي ، ناسيا ومتناسيا أن أثرياء القرية لم يتمكنوا من تأمين ثمن ( تلك البلية ) إلا بصعوبة بالغة.
طبعا، ( فِضّة ) ظلّت على ذمّة (عواد ). وظل( عواد) يمارس حقوقه السيادية على ( فضة )كاملة غير منقوصة. واستمر بالتوغل في حدودها الإقليمية، كلما حانت الفرصة ، دون أن يفكر بتخريج لهذه اليمين، ودون أن يفكر، أيضا ، بإمكانية بـَيْعِ حماريْه من أجل شراء تلك "البليـّة " التي سَتُغْنِيهِ عن "جميلة " أبي علي .
الشاهد في هذه الحكاية أن عدم إعلاننا عن آرائنا في كثير من المواقف الحياتية اليومية ، في الشارع ، أو في المجالس الخاصة والعامة ، ليس ناتجا عن إحساسنا بأننا سنكون مسؤولين عما نقول .
إذن ، يبدو أن الاحتمال الأول ، وهو الميل إلى المجاملة المجانية، هو السبب في عدم مخالفة ما يطرح من آراء أو وجهات نظر ، رغم أن موضوع الخلاف أو حتى إبداء التحفّظ لا يرتب على أي منهما أية مسؤولية .أو ، لعلّ المسألة بِرُمّتِها هي " هيكْ " خـلـقـة الله ! .