أزعم أنني أعرف الكثير الكثير مما لا يعرفه من يعتبرون أنفسهم أصحاب تجربة في الحياة، أولئك الذين يؤمنون بمنطق المفتاح والقفل في زمن أصبحت فيه كل الأبواب مفتوحة على مصراعيها، وليست بحاجة لأي مفتاح أو لمن يفتحها أصلاً أو لحمل كيس من المفاتيح وتجربة الآلاف منها على القفل حتى يفتح، فالأبواب المفتوحة ليست بحاجة لتطبيق نظرية القفل والمفتاح عليها.....
هؤلاء أصحاب الخبرة أو من أسميهم على المستوى الوجودي"قليلي الخبرة" اتبعوا أسلوبا تكتيكيا جديدا كي يبرروا غباءهم في فتح الأبواب المفتوحة، فأغلقوا الأبواب وأعادوا فتحها من جديد كي يجربوا نظريتهم السخيفة عليها، ما أريد قوله وباختصار شديد إن هذه الظاهرة المرضية الانفصامية التلقائية التي بدأت تسود حولنا اليوم هو أن هنالك من يريدون أن يفصّلوا الحياة كما يريدون حسب رغباتهم وأهوائهم وقناعاتهم التي لم ترتق لمستوى القناعات أصلاً، فالتجربة والخبرة لا تحتاج إلى شعر أبيض وصلعة شاهدة للعيان وشوارب كبيرة مجدولة بشكل مثلثي كما يظن البعض، وأقصد هنا قليلي الخبرة.
صديقتي:
لم أعرف يوماً التواضع لدرجة الوضاعة فالغربان البيضاء لا يمكن أن تختبئ مدى العمر حتى ولو غيرت لونها فهنالك الكثير من العلامات الفارقة التي تحدد غربانية الأشياء غير صفة اللون، أنا لست شاعراً أسطورياً يبحث في مدن الغبار عن نفس أوكسجين واحد... فقد أخذت من المجد وسربت من الشهرة والألق ما لم يشربه غيري... وأنا لا أريد ارتداء وجه واحد غير وجه وطني الذي أحبه من الوريد إلى الوريد دون مزاودة ودون شعارات نفاثة ودون صراخ كذاب ... لأنني قررت أن أحبه بطريقة حضارية وأن أتعرى من كل محددات الحب ولأرقص معك على ترابه في الهواء الطلق دون أن تضعي بقعة مكياج واحدة.... أريد أن أحبه بصمت وإذا ما احتاجني وطني وطلبني فإنني لا أتردد بفتح شرايين قلبي له في سنوات جوعه وعطشه وتعبه ولا أتردد في أن أكون قطرة المطر التي تنغرس في ترابه أذا ما أراد...
عظيم هو الوطن:
كم أحتمل تعليق أخطائنا على كاهله ولم يشكُ لأحد، كم تحمل الزائدين عن الحاجة ولم ينطق بكلمة لأنه مخلوق رائع يريد أن يعطي الفرصة للجميع حتى "لقليلي الخبرة" يريد أن يعطيهم الفرصة للتنازل عن قاشانيتهم وظلمهم له وللناس ولأنفسهم وللتنازل عن قسوة عقولهم التي تحتمل الطرق عليها بأكبر مطرقة وسندان في الدنيا دون أن يتزحزحوا أو أن يفكروا بتغيير قناعاتهم السوداء....."فقليلو الخبرة" هم دائماً أصحاب عقول قاسية كما تقول جدتي لا يزحزحهم عن خطئهم شيء ... قد تعترضهم بعض الموجات البريئة لكنهم يبيدونها إلى درجة أنهم حتى قد يضطرون لإبادة أجمل حدائق الدنيا أذا ما تعارضت مع طريقهم أو مصالحهم ويذبحون كل ورود الأرض.... ولا يأبهون لحجم الدمار الذي قد يخلفونه ورائهم؛ لأنهم نسوا أن الوطن يحاسب وأن حسابه عسير جداً لا يحتمله مخطئ يريد أن يتوب في الوقت الضائع.
صديقتي:
حاولت طوال عشرين عاماً مضت من اقتراف الفكر والإبداع والكتابة أن أجد تعريفآ واضحآ للوطن؟؟؟
إنه طاقة هائلة؛ طائر أسطوري يحلم الجميع بالقبض عليه وامتلاكه لا بل ومشاهدته ولو لمرة لكن أحداً لم يذكر أنه نجح في القبض عليه فهو من استحوذ على الفكر والخيال والتجربة فصار هاجسا لا يموت... ربما نزعم أننا شاهدنا طائرا أسطورياً من قبل ولكن يا ترى من يجرؤ أن يقول أنه وبعد مطاردة شديدة له أفلح في القبض عليه واحتوائه؟؟
الجواب:لا أحد يستطيع أن يجرؤ على تحمل مسؤولية مثل هذه المزاعم الخطيرة التي لن يصدقها أحد.
تحية للشرفاء الشرفاء الذين ماتوا مع الندى على أجفان الوطن السمراء وقاسموه رغيف خبزهم ومائهم ما احتاجهم...وتباً لكل "قليلي الخبرة" "والغربان البيضاء" الذين رفضوا أفكار غيرهم فلم يحترمهم أحد ورفضهم الوطن من جهاتهم الست لأنهم عجزوا حتى عن استيعاب أنفسهم.
للغربان البيضاء أيضاً صفات أخرى فبعد أن اكتسوا باللون الأبيض الذي يخفي تحته سواد قلوب مميت يتسمون بتطبيق مبدأ "اللاعدالة" فهم مصايون بجوزفرينيا الكذب وهستيريا الأنا وهم فوبيون جبناء عقدهم في الحياة كثيرة " يكرهون كل شخص بروليتاري أو يوتوبي" فهؤلاء هم أعدائهم الحقيقيون الذين لا يطيقون رؤيتهم أحياء.
أعرف الكثير الكثير من الغربان البيضاء والسوداء والكحلية وهناك غربان رمادية اعتبرها من وجهة نظري الخاصة أخطر أنواع الغربان على الإطلاق فهؤلاء سود مع السود، بيض مع البيض، وربما يصبح لونهم احمر مع " الحم..." عفواً مع الحمر.
هؤلاء الغربان "قليلو الخبرة" "ومحتالون في نفس الوقت" لا يقفون عند مبدأ وغالباً ما يعيشون في مزابل التاريخ ويولدون في عصور الكوارث والطواعين النتنة يكرهون الإبداع والمبدعين ويحاربونه بحجة أنهم من يقيمون الإبداع ويحملون رسالته ... صحيح أنهم محتالون لكنهم في قمة الغباء فالثعلبية والاحتيال ليست من سمات الذكاء ولا علاقة لها به كما يظن البعض بل إنها أدنى مستويات الانحطاط الذهني والعقلي.
أعرف أحد الغربان مستعد لكسر كل حدود العقل والمنطق من أجل أن يحطم طموح مبدع .. يجند من يجند لنقل الأخبار وإشاعة الفوضى وإشعال الحرائق وإشعال مئة حرب في نفس الوقت على ذلك المبدع، لم ينظر لشيء مميز في أحد فهو أعمى عن الحقيقة بحكم غربانيته التي تميل لأصل لونها الأسود في داخله.... لا يبحث إلا عن الأخطاء والروائح الكريهة وبالنسبة له فأن أعظم ذنب هو وضع الشيء المناسب في المكان المناسب؛ لأنه وببساطة لم يكن يحلم ولو مجرد حلم بالحيز الكبير الذي بات يشغله... كان محظوظاً ذات سقطة حظ أو جرة قلم فجاء وهو غير المناسب للمكان المناسب فكان ذلك المكان الذي يشغله أكبر منه بكثير، فأصبح ظهور المبدعين في حياته نقطة ضعف وهوس وجنون له فحينما يظهر مبدع في الساحة تدق نواقيس الخطر من حوله لأنها تنبئ باقتراب نهايته.
صديقتي:
لن أكون حاداً أكثر فما هو مهم أن كل "قليلي الخبرة" و "الغربان البيضاء" مكشوفون للجميع وعلى الملأ لا يخفون على أحد والاهم من ذلك ان الوطن لا بد يحسم امره معهم ذات مساء.
صباح الفل يا وطني...