في ما مضى من العقود كان هناك أبطال خاضوا معارك الشرف بكل بسالة، ومنهم من استبسل في الدفاع عن عمّان ومن قبلها القدس الشريف وأرض فلسطين كلها،ولازم هذا الوصف جنودنا البواسل بمختلف رتبهم، ولكن الحرب قد وضعت أوزارها منذ زمن بعيد، ولكن لم تنته البطولات التي يسجلها البعض دون أن نرى حتى صور وجوههم، ولم تقم لهم محافل التكريم أوالتأبين لشهدائهم، هؤلاء هم أبطال الدفاع المدني، أبطال السلم الأهلي والحماية المدنية، وأبطال الأمن العام والجيش، ومثلهم عمال النظافة العامة الذين يزيلون فضائحنا التي نلقي بها في الشوارع وعلى قوارع الطرق، ولأن البطولة لا تموت بموت الحروب فإن مشاريع الأبطال يعيشون بيننا دون أن نعرف أسماءهم.
يوم الخميس الماضي، كانت عمان العاصمة على موعد مع نصف ساعة من الهطول المطري الغزير، تحولت فيها الشوارع والأنفاق المرورية الى بحيرات ومستنقعات، وغرقت المركبات وتعطلت المئات منها، وحوصر المواطنون في منازلهم وقضى أربعة أشخاص نتيجة الغرق، فيما كان الناس يشبعون الهواء والفضاء شتائم وتعليقات، وانتقادات من الجميع لعدم الجاهزية التي من المفترض أن تكون أجهزة أمانة عمان مستعدة ومستنفرة مسبقا، ومتأكدة من انسيابية الصرف المائي.
حسنا، ما وقع قد وقع، ولكن من أنقذ كل أولئك البشر ونضح المياه التي كانت تغلق الأنفاق وتملأ البيوت المنخفضة هم نشامى الدفاع المدني الذين تصدوا للمعركة المدنية الكبرى، حيث تعاملوا مع أكثر من 400 حالة نضح للمياه عبر المضخات، وأنقذوا أكثر من 800 مواطن كانوا عالقين وسط المياه، وتحرير مئات السيارات بمشاركة مرتبات إدارة شرطة السير التي كان عدد من ضباطها وأفرادها يسبحون في برك المياه لتحرير المركبات العالقة وتنظيم حركة المرور، فيما هب العديد من المواطنين والشباب لإنقاذ آخرين.
أبطال الدفاع المدني لم تكن «شتوة عمان» نزهة بالنسبة لهم، ولكن على مَر السنين قدموا تضحيات وأعمالا بطولية وإنجازات عملية لا تحصى، فتعاملهم في جميع أنحاء المملكة وعلى مدار الساعة لا يتوقف، وأي حادث سير يقع في أي طريق أو حادث حريق أو هدم وردم أو حرائق الغابات والمزروعات، أو الإصابات المنزلية والمرضى لا تسمع سوى صافرات سيارات الدفاع المدني تمخر عباب الشوارع المزدحمة للوصول الى مكان الحادث لإنقاذ الأرواح، وكم من أفراد تلك المديرية العزيزة قد استشهد وهو يشارك في إنقاذ المواطنين أو إطفاء الحرائق، ثم لا أحد يتذكرهم بكلمة.
لا أدري كم هي المخصصات المالية لمديرية الدفاع المدني ولكن أتوقع أنها لا تتجاوز ربع موازنة أمانة عمان، دون حساب تكاليف الأنفاق السفلية التي أنشئت دون الخضوع لمعايير الصرف والتهوية، حيث تنفذها شركات مقاولات خاصة كان أصحابها يتناولون اليانسون الساخن لحظة ما كانت جحافل الدفاع المدني يلهثون وسط المياه لإنقاذ العاصمة من فضيحتها، ومع هذا وبأقل التكاليف يسجل النشامى أوسمة من إنجازاتهم بأسرع وقت ممكن، دون تبرير ولا تذمر، ودون تحصيلات مالية آخر العام تحت بند خدمات عامة وتمرير للكوارث.
ثلاث صور من بين مئات الصور في عمان كانت كافية لتعلم المتنمقين بقيافتهم داخل مكاتبهم الفارهة، حيث يقف وزير الداخلية سلامه حماد معتمرا شماغه الأهدب وعلى يمينه الفريق طلال الكوفحي يشرفون على إنقاذ عائلات داهمت مساكنها المياه المغرقة في أحد الأحياء الشعبية حيث غاص المنقذون لانتشال العائلة الثكلى، وفي الصورة الثانية أفراد من شرطة السير لا نعرف أسماءهم يغوصون في مخاضة وسط الشارع الغارق بالمياه يبحثون عن المناهل لتصريف المياه، فيما الثالثة لفريق من الدفاع المدني تغطي المياه الملوثة بغيرها من الصرف الصحي وهم ينضحون البحيرة النتنة من داخل نفق رئيس، لتعود الحياة الى شوارع عمان المدللة بعد ساعات قليلة.
إن المواطنة ليست بالأقوال الطنانة والشعارات الرنانة، بل بالأفعال الأمينة والمسؤولية المُقلّقة لأي موظف عام يتصدى لأمانة المسؤولية، وليس من باب الأدب على الأقل أن يخرج البعض لتبرير ورمي المسؤولية على الآخرين، فلو كل مسؤول تحمل مسؤوليته بأمانة ومواطنة حقة لأصبح بطلا، ولكنها «السبهللة» التي يعيشها البيرقراط حين لم يتكلم أحد من المسؤولين في الصف الأمامي عن مسؤوليتهم حتى اليوم لماذا غرقت الأغوار الشمالية فكيف بعمان إذا.
الرأي