دهمت السيولُ القريةَ، ولا جديدَ في زيارتها، ولا هلعَ متوقَّعاً، فالأوديةُ تتكفَّلُ بقيادتها بعيداً عن البيوت، والأقنيةِ والمصاطبِ.
يُمسكُ الوادي برأسِ السيْلِ ويجرُّهُ مِثْلَ بغْلٍ، وُيطلقهُ ليدكَّ بحافرهِ الحصى والشجيراتِ الصغيرة والُعلبِ الفارغة، وَقَدْ يمرُّ بكهفٍ، ويملأُ فمه بالمياهِ، فلا يتكلّم، وبعجوزٍ وضعت له آنيةَ نحاسٍ مرصوفةٍ بالحجارة، فيدعُ ماعزها يشربُ، ويأذنُ لها بالحليب.
لمْ يمتْ رجلٌ في سَيْل. لم تُكسر ساقُ امرأة. لم تتعثّرْ فيه نعجةٌ واحدة. حتى الكلابُ كانت تعتلي الرجومَ، وتنبحُ على السيولِ فتختفي في شقوق الأرض، وتأخذُ معها دلواً من هذا المزراب، أو جرَّة من ذلك البيت، فالقريةُ تخافُ الثلوج التي تستقرُّ، وتفرضُ الإقامةَ الجبريةَ، ولا تأبهُ للسيولِ، فهي تجري بعيداً إلى مصبّاتٍ وطُيونٍ، وأكثرُ ما تفعلهُ أنها تمحو ما نقشتهُ حوافرُ الحمير من دروبٍ سهلةٍ على بُطُونِ السفوح.
دعوا السيلَ يركضُ حتى يتعب. الشياهُ في حرزٍ حريزٍ مع الأطفالِ، وكلُّ ذئبٍ سينامُ على جوعهِ الليلة. الديوكُ تتفرّغُ لتعبئةِ السِّلالِ بالبيض، والشتاءُ أوانُ الخصوبةِ، والدجاجُ في مأمنٍ من الثعالبِ والسكاكين، وما على النساء سوى رميِ الجريشِ في القُدور، فَيَكُونُ عشاءً، ينتهي بإبريق شاي.
يتسامرُ الرجالُ بالشجاعةِ، وبتغريبةِ بني هلال. قال أحدهم: هل تعرفونَ أنَّ أبا زيد الهلاليّ ضربَ السيلَ بسيفهِ البتّارِ فشقَّه سيْلين، ليُنقذَ ابنةَ أختهِ التي غدرتها المياه، فيما كانت تفتحُ مجرىً بعيداً عن كوخِ أبيها المُسنِّ. ردَّ ثانٍ: أبو زيد خالها فعلا، أما نَحْنُ، فلا يجرؤ أحدنا أنْ يدخلَ إلى مغارةٍ في هذا الليلِ المعتم الممطر.
احتدَّ سالمُ هازئاً، وصاحَ: أبو زيد عمّي وخالي. اختاروا أيَّ مغارةٍ في الجبالِ القريبةِ، وسأذهبُ إليها من فوري، ولتكنْ قريبةً من أوكار الوحوش.
أخذ الحماسُ والتحدي الساهرين، وهتفَ صاحبُ الدار في وجهِ سالم بفطنةٍ: وما دليلكَ أنكَ زرتَ المغارةَ الشماليةَ القصيَّةَ إذا اخترناها لك؟.
ردَّ سالمُ بغطرسةٍ: هاتوا وَتَداً، وسأغرسهُ في آخرِ المغارةِ، وأعودُ لأكملَ معكم السهرة، وستجدونه في الصباح مدقوقاً هناك، على أنْ يكونَ لي كبشٌ وتيسٌ من أغنامكم. وافقَ الرجالُ سريعاً، وأعطوه وَتَداً، وضعه تحتَ حزامٍ ينتصفُ ثوبه، ومضى، وهمسَ أحدهم ساخراً: أرجو أنْ يساعده خالهُ أبو زيد الهلاليّ، وهو يهبطُ من عرقوبِ المارد، أو حينَ يلتفُّ من تلعةِ الغولة.
انتصفَ الليلُ، وتوقَّف هديرُ السيول في القرية، إلا من غرغراتٍ بين الحصى. وأثقلَ النعاسُ الساهرين، فناموا حولَ موقدِ الحطب، ولم يعدْ سالم. حذَّرتهم الديوكُ من قرب الفجر، فأخذوا هراواتهم وخناجرهم، وذهبوا إلى بيتِ سالم، فلم يجدوه، وارتابَ أهلهُ، فأسرعت القريةُ كلها إلى المغارةِ الشمالية، فكانت حكايةٌ شتائيةٌ كتبها الخوفُ. ولِمَ لا، فالشجاعةُ خوفٌ قديم.
دَخَلَ سالمُ المغارةَ في ظلمةِ الجَبلِ، وتقصَّدَ آخرها، وحلَّ حزامَهُ عن الوَتَدِ، وانحنى ليدقَّهُ بحجرٍ في أرضٍ جافّة لم يزرها السيلُ. وحينَ حاولَ النهوضَ، تيبَّسَ ظهرُهُ، وشعَرَ بقوةٍ تجذبهُ إلى الأَرْضِ، فتوقفَ قلبه، ومات.
لم تكنْ غولةً. لم يكنْ جنَّاً. لم تكن روحاً تسكنُ المغارة، فَقَدْ غرسَ سالمُ الوتَدَ في ذيْلِ ثوبهِ الثقيلِ من فرط حلكةِ الظلام والعجلةِ والهلع، فغاصَتْ قماشتهُ في التراب، وحينَ همَّ بالنهوضِ جذبتهُ، فرآهُ أهلُ القرية ميِّتاً، حيثُ يلقى الشجاعُ حتفهُ في حكايةٍ عن سيْلٍ قتلتهُ مغارة..