أسند ظهره مع تنهيدة طويلة إلى الحائط الظليل ، تنفس عميقا بعد طول مشي تحت شمس حارقة ، ثم مسح قطرات العرق المتجمعة على جبينه ، وكأنه غفا قليلا ، أو هكذا هيء له ، انتبه على صوت نسائي متسول ، فتح عينيه ، كان ثمة أم ألقمت طفلها ثديا ناشفا ، وعينان مزمومتان في حجر ضيق أصلا ، وهاتف يقول: أعطني مما أعطاك الله، أشاح الرجل المتراخي بوجهه عن المشهد ، معتبرا أن الأمر لا يعدو مجرد حلم ، أخرج من جيبه كيس تبغ بلدي ، وبدأ بلف سيجارة ، أشعلها ، وتكرر التوسل والتسول: أعطني،
كان عائدا للتو من ندوة سياسية مشى إليها كيلومترات لا يدري عددها ، متأبطا بضع صحف وكتب ، أرخى جسده إلى الحائط الظليل ، بعد أن شرب من ماء سبيل ، وضع للعابرين ، ألحت بالسؤال: أعطني، غير أنه لاحظ أن لهجة التسول خفت فيها كمية "التوسل" بعد أن رأته يدخن سجائر "لف" جلست قربه ، كفت عن التسول ، نظر إليها بعطف ، وأخرج من جيب بنطاله "فراطة" نقود ، وقال: تدرين أن ما في جيبي لا يكفي لعودتي إلى البيت ، يلزمني أن أركب وسيلتي مواصلات ، وما معي لا يكفي إلا وسيلة واحدة ، يعني علي أن أركب جزءا من الطريق ، وأمشي الجزء الثاني، رفعت حاجبيها متعجبة: لكن حذاءك لامع ، ولباسك مهندم ، ولا تملك غير قروش قليلة؟ كما أنك تدخن سجائر "لف"؟، قال: نعم ، ولا أملك غير هذه القروش ، هل صدقت أنني لا أستطيع تقديم مساعدة لك؟ قالت: صدقت ، خذ لك سيجارة ، ثم أخرجت علبة سجائر فاخرة من "عبها" وأعطته سيجارة ، دخنها ، واستمرت المتسولة بالحديث: وكيف ستعود في هذا الجو الصعب؟ قال: كما أعود عادة: ماشيا أو في ركوبة أحد المعارف؟ قالت: ألا تعمل؟ قال: لا ، الفرص ضيقة ، وتحتاج إلى "ظهر" يسندها ، لم يظهر عليها أنها فهمت ما يرمي إليه تماما ، لكنها مدت يدها إلى حقيبة بالية معلقة على كتفها ، واخرجت خمسة دنانير وبعض قطع من النقود المعدنية وقالت: أقسم أنني لم "اشحد" هذا اليوم غير هذا المبلغ ، خذ منه ثلاثة دنانير ، واركب بها تاكسي لبيتك ، وأبق لي الدينارين والفراطة، يقول لي المثقف ، وهو يروي هذه الحادثة التي تكاد أن تكون ضربا من الخيال: عند هذه "الذروة" من تطور الحوار بيني وبين المتسولة الطيبة ، دارت بي الدنيا مليون دورة ، و"عزت علي نفسي" وكدت أنفجر بها غاضبا ، إلا أنني سيطرت على مشاعري ، ونظرت إلى جانب آخر في عرضها: تعاطفها معي ، ورغبتها في "تشحيدي" جزءا مما "شحدت" رغم أنها ربما لمت المبلغ بالشلن والتعريفة ، بصدق ، يقول لي ، أكبرت موقف المتسولة الشهم ، وشعرت بغضب على نفسي والناس والمجتمع،
أنا أعرف أن صديقي المثقف جدا ، لم يدخر جهدا في البحث عن عمل ، واستعمال كل طرق توفير الدعم اللوجستي والتوسط لاصطياد وظيفة ، لكنه لم يوفق في عمل ، إلا أخيرا ، بعد أن وصل حافة الهاوية، قد يبدو أن هذه القصة من نسج الخيال ، لكن في المرتين اللتين رواها لي "بطلها" على سبيل الدعابة والتفكه ، شعرت أن الدنيا تدور بي ، وأقسم أنني لم أشك لحظة أنها وقعت فعلا ، لأن هناك مثقفين "غير خفيفي اليد" لم يزالوا يعيشون حياة أقل "رفاهية" من متسول أو متسولة،
helmi@nabaa.net
الدستور