القادمون الجدد: الإعلام نموذجاً
ابراهيم غرايبه
06-06-2008 03:00 AM
القادمون الجدد مصطلح يستخدم اليوم على نطاق واسع ويؤشر على النخب والقيادات الجديدة في الأعمال والسياسة والإعلام وفي الدعوة والإسلام أيضا، وربما تكون الصحافة الحالة النموذجية لفهم هذه الظاهرة.
وربما سوف يشار إليها باعتبارها أهم مؤشر على هزيمة المجتمعات والطبقات الوسطى، ففي الوقت الذي كانت الصحافة حتى الرسمية منها مصدرا لحماية المجتمع من السلطة التنفيذية وقادة القطاع الخاص فإنها قد تتحول إلى أداة بيد التحالف الجديد من رجال الأعمال والمؤثرين في الوقت نفسه في السلطة التنفيذية، وهكذا فكما كانت الصحافة عنوانا على التفاعلات والصراعات السياسية والاجتماعية بين الأحزاب والمعارضة وبين السلطات والنفوذ المتحالف معها والمستمد منها، وأداة لنشر الأفكار والتأثير في المواقف فإنها تتحول إلى شاهد على انتقال الصراع من كونه بين الحكومات والمعارضة السياسية أو بين الأفكار والتيارات إلى كونه صراع بين المجتمعات والطبقات الوسطى وبين الإقطاع الجديد أو رجال الأعمال الذين يقودون السلطة التنفيذية.
كانت أزمة الصحافة العربية، وأعني بالصحافة جميع وسائل الإعلام من الصحافة والإذاعة والتلفزيون والإنترنت والإعلان والنشر والتصميم والعلاقات العامة واستطلاع الرأي في أهميتها وتأثيرها، ففي مرحلة الدولة الحديثة والشموليات السياسية كان توجيه المجتمع والثقافة وإدارة الصراع الداخلي والخارجي يجعل الصحافة أخطر من أن تترك للصحافيين وللسوق والمجتمع كي ينظم نفسه واحتياجاته ومنها الصحافة، ولم تسمح لا الليبرالية ولا الشمولية للمجتمعات والأسواق أن تنظم الصحافة على أساس أنها سلعة وخدمة يحددها العرض والطلب.
وعندما اتسع العمل الصحافي وتضاعفت أسواقه وآثاره أصبح هدفا لفئات وطبقات جديدة من المجتمع لم تكن تهتم بالعمل الصحافي كثيرا من قبل، وبرغم أنها ظاهرة يمكن أن تكون مشجعة ومصدرا لإغناء الصحافة والتشكيل الاجتماعي للعاملين فيها، فإنها في هذه المرحلة على الأقل تتحول إلى صراع اجتماعي غير متكافئ، وإذا استمرت هذه الحالة، والمرجح لدي أنها ستتواصل فإن الصحافة ربما تتحول إلى مهنة أنيقة تمارسها مجموعة من الشباب والصبايا الوسيمين والمدللين باعتبارها مدخلا للنجومية والبزنس الجديد.
الواقع أن الصناعات الثقافية والإعلامية اليوم تعد من أهم القطاعات الاقتصادية، فلو نظرنا نظرة عامة على ما تؤدي إليه الخدمات الصحافية والإعلامية القائمة اليوم من المؤسسات الصحافية والتلفزيونية والسينمائية والإعلانية ودور النشر والمطابع وأعمال التصميم والبرمجة والتقنيات المتصلة بها وأعمال المراسلين والمنتجين والمكاتب الصحافية والتلفزيونية وما حولها من خدمات كثيرة فإننا نتحدث عن صناعات عملاقة لعلها في الدول العربية تقترب من أو تدور حول مائة بليون دولار.
وقد يتضاعف هذا الرقم في المستقبل القريب، فالصناعات المعرفية والإبداعية آخذة بالاتساع على نحو يعيد تشكيل المجتمعات والطبقات والصراعات والموارد والتنافس والتداول المتصل بها، وهذا السوق النامي يعتبر اليوم من أكبر الأسواق ومجالات التشغيل والفرص في العالم، من التصميم والإنتاج والخدمات والترجمة والإبداع والبرامج التلفزيونية والسينمائية والكتابة والبحث والإعلان والتسويق والخدمات المتخصصة التقنية والإبداعية والملكية الفكرية والثقافة والفنون، وتتيح شبكات الاتصال والمعلوماتية فرصة كبيرة لتسويق الأعمال دون حاجة للسفر والعمل في الخارج وبتكاليف مخفضة عن المرحلة السابقة بنسبة كبيرة جدا.
وقد أدى النمو السريع والمفاجئ لهذا السوق بعد مرحلة من الاحتكار إلى جعل ممارسة المهنة وتصنيف العاملين حالة تعمها الفوضى وعدم الوضوح وفقدان المعايير العلمية والعملية المحددة للممارسة والمنافسة والتفوق، وكذلك فإن التدريب العملي والتأهيل المهني يحتاج إلى مواصفات وتطبيقات وامتحانات أكثر تنظيما وملاءمة، ويمكن الاستفادة في مواصفات المهن والمطبقة في مجالات مهنية أخرى أو لدي مؤسسات الجودة العالمية.
إن المهن تتشكل حول الخدمات التي تنشئها الموارد والأنظمة الاقتصادية أو الحاجات الأساسية والرفاهية للأفراد والمجتمعات، فهي تقتضيها ضرورات اقتصادية لتنظيم الأعمال مثل المحاسبين، أو تطور احتياجات الناس في الصحة والطعام والسكن، مثل الأطباء والمهندسين والمعلمين، أو اتجاهات الناس وتطلعاتهم الثقافية والجمالية، مثل الكتاب والفنانين والمصممين، ويفترض تبعا لذلك أن تنشأ طبقات وفئات اجتماعية ومهنية تنظم ممارسة المهنة وتعليمها وتطويرها، وأن تتشكل حولها مصالح وجماعات ضغط وعلاقات اجتماعية ومهنية، فأين تقع مهنة الصحافة من هذه الافتراضات؟ وكيف تشكلت وما أثر هذا التشكيل على الحياة السياسية والعامة وعلى مهنة الصحافة نفسها؟
برغم أن الصحافة العربية شكلتها النخب السياسية وقامت على عاتق المثقفين والأدباء فإنها قد ابتعدت بسرعة عن التطور الطبيعي المفترض للمهن، ثم إن الصحافة في العالم دخلت في السنوات الأخيرة في مرحلة من التحولات الكبرى والجذرية، وأصبحت سوقا واسعة ومؤثرة في حياة الناس وأفكارهم وسلوكهم أكثر من أية مرحلة سابقة، وقد يفسر هذا الارتباك والفوضى القائمة في مسار الصحافة والإعلام.
لم تكن الصحافة العربية ساحة جذب للشباب الجامعيين والمتفوقين في الكتابة والعمل العام والسياسي، ولم تكن سوق عمل يتنافس عليها الشباب فتختار الصحف أفضلهم، وفي مرحلة من النمو الاقتصادي والاجتماعي عندما بدأت مهن مثل الطب والهندسة تجتذب أفضل الكفاءات العلمية، وعندما بدأت الأسواق الخليجية الصاعدة في السبعينات تجتذب أفضل الكفاءات، وفي مرحلة من تبعية الصحافة للسياسة والحكومات تبعية مطلقة جعلتها جزءا ملحقا بها تحولت مهنة الصحافة إلى عمل يخلو من الإبداع والتنافس والتحدي.
وعندما دخل العالم في مرحلة المعلوماتية والاتصال كانت الصحافة هي من أكثر القطاعات تأثرا بهذه التحولات إن لم تكن أكثرها تأثرا، فلم يعد الصحافي في مؤهلاته وكفاءاته المطلوبة وشروط علمه والخبرات والمهارات اللازمة لممارسة مهنته هو نفسه الذي كان يعمل قبل سنوات قليلة بشروط ومهارات مختلفة كثيرا.
وفي دخول الصحافة لحياة الناس وأعمالهم أصبح المطلوب منها أيضا مختلفا عما كان يطلب من الصحف وما ينتظره القراء منها قبل سنوات قليلة، إننا نتحدث اليوم عن أدوات ومهن وأسواق مختلفة اختلافا كبيرا عما كان عليه الحال من قبل.
لقد حدث مثل هذا الأمر فترات ماضية في معظم المهن المعروفة كالطب والهندسة والمحاماة، وتواجهه اليوم أيضا مهن أخرى غير الصحافة وبخاصة تلك التي تدخل المعلوماتية في مجالاتها بمساحات وأهمية واسعة.
وببساطة فإن ما يمكن قوله في السطور المتبقية إن الصحافة تستوعب اليوم بشكل فعلي وقائم أكثر من عشرة أضعاف التشكيل التقليدي للصحافة، وفي الوقت نفسه فإن كثيرا من الأعمال التي كانت تنفذ مستقلة عن الصحافي أصبحت من صميم عمله اليومي، مثل استخدام الكمبيوتر استخداما متقدما والصف والتصوير والإخراج الصحافي، كما أن صعود مجالات جديدة وتحولها إلى جزء واسع ومهم من الصحافة كالاقتصاد والرياضة والعلوم والتقنية والبيئة وحقوق الإنسان والنشر والثقافة والفلسفة وأنماط الحياة والتعليم تجعل الصحافي غير قادر على أداء عمله بخبراته ومؤهلاته التقليدية.
الصحافة بحاجة إلى رؤية جديدة وإعادة تنظيم مختلفة اختلافا كبيرا عما كان عليه الحال طوال نصف قرن، وتؤشر تحولاتها على الارتباك وربما الفوضى في التشكيلات الاقتصادية والاجتماعية، وتعطي مثالا ربما يكون أكثر وضوحا على التحديات والفرص والعالم الجديد الذي يتشكل.
كاتب أردني /عن الحياة