بمعزل عما جرى غير مرة في عاصمتنا عمان جراء التساقط الغزير للامطار بإعتباره أمرا إجرائيا يتصل بالبنية التحتية والفوقية للمدن , وعطفا على موجة الإحتجاج الشديدة التي رافقت فيضانات الخميس بإعتبارها حالة متوقعة إجتماعيا , فإن النظرة الإستراتيجية إلى الواقع الشمولي للعاصمة عمان, يجب في تقديري أن ترقى إلى ما هو أبعد وأهم قبل فوات الأوان .
عمان التي تضاعف حجمها عشرات المرات خلال فترة زمنية قياسية جراء سوء التخطيط وغياب الحس العلمي في ظل نكبات افرزت هجرات عدة , إلى جانب هجرات داخلية افرزها سوء التخطيط المدني ذاته , يجب ان لا تكبر اكثر مما كبرت حتى الآن , وإلا فسوف يأتي زمن تصبح عمان فيه هي الاردن كله , مع ما يرافق ذلك من معضلات وتحديات سيكون الفيضان الناجم عن مطر لساعة او ساعتين أقلها .
تاريخيا , إرتاحت الدول التي أدركت المفهوم الحقيقي للعاصمه , وكيفت خططها التطويرية المدنية العمرانية إقتصاديا وإجتماعيا وحتى سياسيا , وفقا لذلك المفهوم المستند إلى ركائز عدة منها ,
اولا
العاصمة مدينة ذات رمزية سياسية اكثر منها أقتصادية وإجتماعيه , فهي مركز قيادة الدولة وحاضنة سلطاتها العليا وقيادات جيشها وقواها الامنيه , وهي مقر السفارات والمصرف المركزي او ما يسمى شيخ البنوك , وأية مرافق رسمية عليا ذات خصوصية تفرض تموضعها في العاصمة دون سواها من حواضر الدوله , وما عدا ذلك , فوجوده في رحاب العاصمة هو لزوم ما لا يلزم إلا عند من لا يحسنون اصول التخطيط بعيد المدى .
ثانيا
في ضوء ما سبق , تصبح العواصم مدنا صغيرة قياسا بغيرها , لها خصوصياتها الثقافية وحضورها السياسي الواضح اكثر من أي حضور إقتصادي او إجتماعي , وتقل فيها مرافق المهن والحرف والتجارة إلا في حدود ما يكفي سكانها وزائريها .
ثالثا
وفي ضوء ما سبق كذلك , يغدو من السهل جدا تشغيل الحياة العامة في العاصمة وصيانتها والحفاظ غلى خصوصياتها , على ان يترافق ذلك وطنيا مع تكثير المدن الأخرى , والحرص على ان تكون كذلك مدنا صغيرة في حجمها , فالمدن الصغيرة الاكثر عددا , افضل سياسيا وامنيا وتنافسيا وإجتماعيا وتتيح تمازجا شعبيا افضل بكثير مما تتيحه المدن الكبيرة الاقل عددا وتعدادا سكانيا وتجاريا وصناعيا وحرفيا وسوى ذلك من مرافق عامه .
من واقع عاصمتنا الكريمة عمان , نلحظ بيسر ان عمان قد قضمت سائر اخواتها, وغدت المكان الوحيد الجاذب للاردنيين من كل الاطراف , فهي أم السياسة والاقتصاد والثقافة والمهن والوظائف والبنوك والاحزاب والمنتديات والحرف والطبابة والنقابات والمجالس والجامعات والمطاعم والمقاهي والفنادق ودور السينما والجمعيات والورش والصناعات وكل انواع الخدمات , اي بإختصار كل شيء فيها وهي كل شيء , ولا يلام احد من المواطنين خارج نطاق المسؤوؤلية الرسمية بشيء من هذا , فالناس تبحث طبيعيا عن رزقها وذاتها عند تزاحم الاقدام .
ويتعدى الامر واقع المرافق والخدمات إلى ما ابعد , فالوزراء مثلا من سكان عمان او هم عمانيون حتى لو كانت مساقط رؤوسهم من مدن وبلدات اخرى , وكذلك كل او معظم الاعيان والنواب والامناء العامين والمديرين العامين والسفراء وامناء الاحزاب والنقباء وكل او معظم الرؤساء ايا كانت المرافق العامة التي يرأسون , ومن لم يكن من قاطني عمان منهم حتى الآن , فهو بالضرورة يفكر ويسعى حثيثا للإنتقال إليها , ولست اعرف سيارة حكومية ذات رقمين او ثلاثة تعود نهاية دوام كل يوم إلى محافظة إخرى إلا ما ندر وربما من النواب الذين ما زالوا قاطنين في محافظاتهم , وما ينطبق على القطاع العام , ينطبق كذلك على القطاع الخاص تماما , فانا لا اعرف رئيس مجلس ادارة بنك او مديرا عاما
لبنك او شركة كبرى او صغرى يقطن محافظة من محافظاتنا الاحدى عشرة بإستثناء عمان , كما لو كانت الزرقاء او الطفيلة او عجلون او حتى العقبة من اصقاع اخرى مع ان ابعد مسافة لمدينة عن عمان لا تتعدى ساعتين او ثلاثا او حتى اقل , فنحن نترك ناسنا في المحافظات القريبة وكلها قريبة لاقدارهم كما لو كانوا ليسوا منا ولا نحن منهم .
بإختصار نحن وطنيا وإستراتيجيا بمسيس حاجة لإعادة نظر شاملة في هذا الواقع الذي يجعلنا جميعا ومن العقبة إلى عقربا , نخرج عن طورنا ونتبادل الإتهامات وربما الشتائم كلما اكرمنا الكريم برشة مطر , وسقى الله ايام زمان عندما كان المطر والثلج الغزير ينهمر لايام عديدة دون ان نعرف ان هناك دفاعا مدنيا واسعافا وانقاذا او حتى ان هناك سلطات مسؤولة عن احوالنا وسلامتنا , والله من وراء القصد .