عمّان بعدَ بغداد، وبيروت، والإسكندرية تغرقُ في زخاتٍ من المطر. تكشفُ غيومٌ عابرةٌ ما استقرَّ في أربعِ مدنٍ عربيَّةٍ من الإهمال والفساد وعجز الدولة عن وظائفَ أساسية، تُسوِّغُ العلاقةَ بينها وبين النَّاس، وتسألُ عن الخدمات والضرائب والمصالح والتنمية في بعدها البدهيّ والانسانيّ.
لقد اندفع النَّاسُ إلى الشوارع في ربيعِ العرب، غضباً من الاستبدادِ، وضياع الحقوق، وانسداد مخارج الخلاص والأمل. هل لأجلِ الديمقراطية أحرقَ الشبابُ أجسادهم في الميادين العامة. هل لأجلِ الانتخابات النزيهة والعدالة الاجتماعية احتشدَ الملايينُ في الميادين، وناموا في الخيام، وفتحوا صدورهم لرصاص القنّاصين. أم لأنّه اليأسُ العام، الذي يبدأُ من مستشفى، لا تعملُ فيه أجهزةُ غسيل الكلى، ومن مدرسةٍ مفتوحةٍ لتدريسِ الأميَّة، إلى شوارع خربة وعشوائيات، وقوانين لا تشبهُ أكثرَ من الأكاذيب في هزالها، حينَ لا ترى أبعدَ من حراسة الظلم والظلام.
أربعُ مدنٍ عربيَّةٍ لم تصمد بنيتها التحتية ساعةً واحدةً أمام الأمطار. ماذا وضعت الأماناتُ والبلدياتُ تحتَ الطرق والجسور. لا تسألوا عن المواصفات والمعايير. المساءلة نفسها ماتت، وها هو نعيها منشورٌ في الصحف الحكوميّة التي تؤكدُ دائماً أنّ الأمورَ على خير ما يُرام. وأنَّ العطاءَ أُحيلَ على المقاولِ بأقصى درجات الشفافية.
لاحظوا ايقاعَ هذه المفردة: الشفافية، وتتبعوا منذ دخلت القاموسَ الحكوميَّ العربيّ في التسعينات، ترجمةً عن Transparency في فهم دول القانون والمواطنة والديمقراطية لمبادئ الوضوح والمساءلة، وخضوع المؤسسة للمحاسبة والمراقبة، تحتَ ضوءٍ إعلاميٍّ كاشف وغامر.
يظنُّ المسؤولُ العربيُّ أنّ المفردةَ صالحةٌ لتدبيجِ الإنشاء، يخطبُ في البرلمانات أنّ الحكومةَ تتعاملُ مع العطاءاتِ والمناقصاتِ بـ"أقصى درجات الشفافية".
حين تسمعون ذلك ضعوا أيديكم على قلوبكم، وتهيأوا لشارعٍ كثيرِ الحُفر، وقليلِ الأسفلت، ولمستشفى تتعطل فيه أجهزةُ القلب، وشكِّلوا جمعياتٍ لشراء قوارب، للإبحار في الطرقات عند أقرب شتوة. ليس بامكانكم، لا أنتم، ولا نوّابكم، ولا إعلامكم أنْ يعرفَ أكثرَ عن أسرار "الشفافية" في مواصفات العطاء، ومن الذي نفذّه، ولا عن الأجهزة الطبية، ومن الذي استوردها.
قال اللبنانيون قبل أشهر للمسؤولين عن الفساد الذي تركَ بيروت تئنُّ تحت النفايات: "فاحت ريحتكم". ثمّ جاءت الأمطار وأخرجت الرائحة من تحت طمر الإهمال، فانتشرت في بغداد وعمّان والإسكندرية. هذا شتاءٌ عربيٌّ واحد، مِثْلَ ربيعٍ عربيٍّ واحد. لا اختلافَ في الأسباب. ولا في المظاهر.
خرجنا إلى الشوارع بحثاً عن هواءٍ نظيفٍ في2011، وغرقنا في الشوارع نفسها في شتاء 2015، وماتَ النَّاسُ اختناقاً من غاز القنابل، ومن الغرق.
في مصر والعراق والأردن ولبنان ثمَّة برلمانات ومظاهرات وحكومات وصراعاتٌ سياسيّات، على هيئة حركاتٍ دينية أو طائفية أو اجتماعية، وثمةَ دولٌ تحتاجُ مزيداً من التدريب على خلط الأسفلتِ جيّداً بالحصى، وزرع المجارير في أمكنتها، والتأكد أنها مفتوحة، وتعملُ بكفاءة. تلك وجوهُ الفشل. كأنكَ تضعُ ورقةً عمياءَ في صندوق اقتراع يُشبهُ تابوتاً في مركزٍ صحيٍّ تكثرُ فيه الفئران. تنقلُ التابوتَ عربةُ إسعافٍ قديمة، تغرقُ بزخّة مطر في طريقٍ معتمٍ، فتموتُ مرتين..