في تشرين .. يطيل الشجر الركوع في صلاة المطر وتمارس الريح المعممة بالغيم دور الإمام ، في تشرين يتفقد الآباء دفء أبنائهم ... يزرّرون لهم «بلايز» الصوف، ينفخون على أصابعهم الرقيقة، يثقلون عليهم بالأغطية .. يمتحنون القفل أكثر من مرة.. يمسحون دمع المطر عن عين النافذة الباكية طوال الليل ..ثم ينامون على صوت الحفيف الخفيف.. في تشرين تصبح حدود الوطن بحدود الغرفة...الأولاد مدن نائمة والأب عاصمة في قلب العاصفة...
وفي تشرين أيضا..تصبح حدود الوطن بحدود الغربة...الأولاد توابيت عائمة...والأب دمعة خوف في قلب العاطفة...في تشرين تركوا «الضيعة» ليصبحوا هم «ضيعة تشرين»...في تشرين لا ملامح ثابتة للذكرى ، لا وجوه مكررة لترد في أحلام الصغار..كل خطوة في بلد..وكل لحظة في قرار..موج البحر ممحاة السفر ، وقارب الهجرة نقطة صبر بين زرقتين زرقة الماء وزرقة السماء...
وفي تشرين ما زال العديد من المهاجرين السوريين ينتظرون على الحدود بغية العبور بين النمسا وألمانيا.. وبسبب البرد القارس وانخفاض درجات الحرارة لجأوا للنوم والاحتماء داخل صناديق من الكرتون..كان «الفيديو» مؤلماً أن يتكوّر رجل أو امرأة في «كرتونة» ثم يغلق عليه أطرافها كي تحميه من الصقيع والريح ..مؤلم أن يتخيّل أطراف الكرتونة نافذة بيته الجديد فيسدها جيداً بيديه العاريتين ...يا لهذا الوطن الذي تضاءل كثيراً ليصبح وطناً من كرتون..
مكتوب على «الكرتونة»المسكونة بــ «عربي» احذر قابل للكسر، وثمة تحذير آخر مرسوم عليه مظلة ومطر...أي انتبهوا جيداً أن تصيبها السماء فتفسد.. أنا المشحون حزناً على وطني ،الملقى على أرصفة التخليص والخلاص...أنا «المصدّر» بشهادة منشأ مختومة بثلاث رصاصات في الساق وبعض السجائر المطفأة في البطن.. فهل تكفي ليكون لي وطن... "أنا بضاعتكم التي ردّت إليكم»... اقرأوا وسوم الشحن المتعارف عليها ثانية...»قابل للكسر» و»البلل»..لذا رفقاً بي عندما يصيبكم منّي بعض الكساد او يجتاحكم بعض الملل...فانا لم «أختر» بائعي... حتى أفاضل بين المشترين... أنا «ترانزيت» الموانئ والفصول...أنا «بيعة تشرين»!!.
الرأي