"الصدى اللعين" لـ: طلال أبو غزالة مقاربة نقدية
04-11-2015 12:14 PM
استوقفني عنوان هذه القصة (الصّدى اللعين) التي وقعت بين يدي صدفة، واسترعى انتباهي أن تكون القصة قد فازت بجائزة القصة القصيرة في المسابقة التي أجراها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والأدب والعلوم الاجتماعية بالجمهورية العربية المتحدة (اتحاد مصر وسوريا آنذاك) بين طلاب الجامعات والمعاهد العليا بالبلدان العربية عام 1958م، فعلى الرغم من قدم عهد القصة وصغر سن كاتبها إلا أن عنوانها، وهو عتبة النص، جاء سابقاً لعهده ومستوفياً لشروط العناوين الأدبية التي أقرها نقاد الحداثة في زماننا الحاضر، عنوان جاء مكثفا وموحيا ومموسقا وفاتحا لكثير من أبواب التأويل.
مكانياً، تدور أحداث القصة في واحد من مخيمات اللجوء الفلسطينية في لبنان، وزمانياً، تدور أحداثها بعد أربع سنوات على نكبة فلسطين، أربع سنوات كانت كفيلة بأن يقوم الضباط المصريون الذين حاربوا في فلسطين إبان النكبة بثورة على النظام الملكي في مصر وإعلان الجمهورية. والشخصية الرئيسة النامية في القصة هي شخصية الشاب الفلسطيني الحالم الذي تفتحت عيناه على الحياة في خيم اللجوء بعد نكبة الفلسطينيين الأولى، ليعيش صراعاً بين جيلين، جيل يمثله هو وحبيبته (وفاء) يحلم بتحرير فلسطين وعودتها لأصحابها، وجيل يمثله والد الشاب ويُعتقد أنه مسؤول بشكل ما وبغير قصد عن ضياع فلسطين.
وإذا كانت القصة حوادث يخترعها الخيال، وتعرض لنا صورة مموهة عن الواقع، فإن الكاتب الواقعي ليس مطالبا في قصته بتقديم حوادث سبق وأن وقعت فعلا، ولكن عليه أن يقنعنا بإمكان حدوث مثل هذه الحوادث، ووجود شخصيات في الواقع تشبه شخصيات قصته، ومن أجمل الملامح الفنية في قصة (الصدى اللعين) أن القارئ لا يلبث بعد قراءتها أن يدرك أن شخصياتها المتخيلة هي شخصيات عاشت على مسرح هذا الواقع واتخذت المواقف نفسها وتفاعلت مع الأحداث بشكل مطابق لما أوردته القصة.
إن أهم سؤال يطرحه القارئ على نفسه بعد قراءة القصة هو: هل تركت في النفس أثراً لايُنسى، وهل هذا الأثر إن وُجد ناتج عن سلسلة الحوادث، أو عن شخصية من الشخصيات، أو عن فكرة من الفكر، أو عن صورة لمجتمع في فترة معينة، أو لجماعة من الجماعات؟، وهذا الأثر هو ما يُعرف بـ:العنصر السائد في القصة.
وفي قصة الصدى اللعين يصعب تحديد العنصر السائد في القصة من بين عناصر: (الحادثة، الشخصية، الفكرة، البيئة)، إلا أن القارئ المتمعن لا بدّ وأن يلاحظ أن شخصية الشاب الفلسطيني الحالم والثائر بارزة منذ البداية ومسيطرة على الحوادث، فكاتب القصة مدرك للتغير الذي أصاب الفلسطينيين بعد ضياع أرضهم، فنتائج هذا التغير ماثلة أمامه، وهو على مستوى النص دائم البحث عن الأسباب التي أدت إلى مثل هذا التغير، كما أنه واعٍ لحجم الأفكار الجديدة التي اقتحمت البيئة العربية بعامة والفلسطينية بخاصة بعد نكبة فلسطين، فبوادر عقلية جديدة أخذت تشق طريقها للسيطرة والتأثير، وملامح صراع خفي نشأ بين الجيل القديم والجيل الجديد سيستمر لزمان طويل، ولأن القاص، على حداثة سنه وقتها، متمكن من أدواته فقد آثر أن يطلق لخياله العنان وأن يمثل هذه الملحوظات والأفكار بشخصية تتفاعل مع الأحداث في بيئة معينة، واستطاع أن يستغل جميع الأحداث والوقائع ليجعلها تلقي ضوءا ساطعا على عقلية البطل (من الجيل الجديد)، حتى جعل القارئ يحس بوجود الشخصية أعمق الإحساس.
إن سيادة الشخصية الرئيسة على القصة لا يعني إغفال سيادة الفكرة أيضاً، فقد استطاع القاص، وبصنعة عالية، أن يجعل حلم العودة لفلسطين بعد تحريرها فكرة تطفو على سطح الحوادث وتحجب البيئة والشخصيات خلفها.
إن تطوير الحوادث في القصة هو الذي يبعث فيها القوة والحركة والنشاط، وهو العصا السحرية التي تحرك الشخصيات على صفحة القصة وتسوق الحوادث حادثة تلو أخرى وصولا إلى النتيجة التي تطمئن إليها نفس القارئ وتتفق مع منطق الكاتب وآرائه الخاصة. والكاتب هنا بارع في تطوير الحوادث، يمشي نحو النهاية معتمدا على المماطلة المحببة والتشويق المحسوب كل ذلك في نسيج محكم يجمع بين الشخصيات والحوادث في بيئة خاصة تتحرك القصة داخلها وتنتهي عند نهاية معينة.
والهم الذاتي الذي يستأثر بمواقف وانفعالات الشخصية الإنسانية يتلاشى في قصة الصدى اللعين لصالح الهم الموضوعي الأكبر والأسمى، فالحبيبة الأنثى تستحيل إلى الحبيبة الوطن، والأحلام الفردية تنغمس في أحلام المجموع، واليأس والمرارة اللذان تسبب بهما الخذلان وضياع الوطن ينقلبان إلى قوة مفجرة تبعث على شحذ الهمم والتعلق بأطراف الإرادة والتصميم على قلب الواقع أو تغييره.
والذروة، وهي القمة التي تبلغها أحداث القصة في تعقيدها، إذا ما بلغها القارئ ينفعل أشد الانفعال وتتلاحق أنفاسه وتضطرب عواطفه وتختلط أحاسيسه فتزداد بهذا متعته عندما تبدأ الحوادث التي صعدت إلى أعلى نقاط التوتر بالانحدار والتصفية والتكشف، والكاتب هنا تحاشى إبراز الذروة بصورة مفتعلة، وإنما قدم لقارئ قصته صورة صادقة من صور حياة الفلسطيني المنبعث من خيمة مسقوفة بالرصاص والنار الحالم بالتحرير والعودة، وعليه، وبما أن تصنيف الكتاب إلى رومانسيين وواقعيين يعتمد على عنصري التشويق والذروة نجد أن القاص في الصدى اللعين أقرب إلى الواقعي منه إلى الرومانسي، وذلك على الرغم من سيادة فكرة الحلم بالتحرير والعودة على القصة، فالسرد لديه يمضي على غرار الطبيعة الإنسانية فلا عنف في إثارة العواطف ولا إغراب في وصف المشاهد، والتفاصيل تورد دون توشية أو تنميق أو مفاجآت مستغربة، وهو قد يعترف لقارئه أن الحياة لا تسير على هذا النهج ولكنه يردف اعترافه بهذا الاستفهام الإنكاري: ولكن عزيزي القارئ ألا تحب أن تراها كذلك؟.
الحوار في قصة الصدى اللعين، إلى جانب السرد، جزء هام من الأسلوب التعبيري في القصة، وهو صفة من الصفات العقلية التي لا تنفصل عن الشخصية بوجه من الوجوه، ولهذا كان من أهم الوسائل التي يعتمد عليها الكاتب في رسم الشخصيات، وعلاوة على ذلك فكثيرا ما كان الحوار السلس المتقن، بين الأب وابنه، مصدرا من أهم مصادر المتعة في القصة، وبواسطته تتصل شخصيات القصة بعضها ببعض، اتصالا صريحا مباشرا، وبهذه الوسيلة تبدو لنا وكأنها تضطلع حقا بتمثيل مسرحية الحياة، والحوار المعبر الرشيق سبب من أسباب حيوية السرد وتدفقه، والكاتب الفني البارع هو الذي يتمكن من اصطناع هذه الوسيلة الفعالة وتقديمها في مواضعها المناسبة.
والشخصيات الثانوية في القصة (الأب والحبيبة وصاحب الدكان) تلعب دورا هاما في توضيح القصة، فهي تقود القارئ في مجاهل العمل القصصي، وتوجه الحبكة والأحداث، وتلقي ضوءا كاشفا على الشخصية الرئيسة التي، على الأرجح، كانت تنطق بلسان الكاتب وتوضح للقارئ خطة السير في القصة. وهنا علينا أن نقر ببراعة القاص بتسخير واحد من أهم المبادئ الفنية في الكتابة القصصية وهو: مبدأ السببية، فالقارئ الذواقة يطالب الكاتب بأن يكون تطور القصة طبيعيا لا يخرج عن نطاق المعقولية والاحتمال وقد نجح كاتبنا في ذلك إلى حد مدهش.
تعتبر الشخصية الإنسانية مصدر إبداع وتشويق في القصة لعوامل كثيرة، منها أن هناك ميلا طبيعيا عند كل إنسان إلى التحليل النفسي ودراسة الشخصية، فكل منا يميل إلى أن يعرف شيئا عن عمل العقل الإنساني، وعن الدوافع والأسباب التي تدفعنا إلى أن نتصرف تصرفات معينة في الحياة، كما ان بنا رغبة جموحا إلى دراسة الأخلاق الإنسانية والعوامل التي تؤثر فيها ومظاهر هذا التأثر، ولعل المتعة التي يحس بها القارئ عند تتبع خط سير الشخصية الإنسانية في القصة ناتجة عن الأواصر التي تنعقد بينهما، وهو تعاطف مع الشخصية وما إليها، لأنه يجد فيها ما يشبهه، وهكذا تكون قراءة القصة بالنسبة إليه عملية بوح واعتراف، والقارئ يشرق بلذة هذا الاعتراف السري، الذي لا يطلع على خوافيه إنسان. وكثيرا ما يتشبه القارئ ببعض الشخصيات التي يقابلها في القصة دون أن يشعر، وهو منذ اللحظة التي تقع فيها من نفسه موقعا حسنا يبدأ بمعايشتها والسير معها، وهو يشعر بشعورها ويحس بإحساسها، ويعتبر نجاحها أو إخفاقها نجاحا أو إخفاقا له، وهذه هي ظاهرة الإشعاع أو العدوى (Empathy) كما يسميها علماء النفس.
وختاما، لا شك أن القصة الجيدة في نظر القارئ العادي هي التي توفر له أكبر قسط من اللذة التي تبعث السرور في نفسه بغض النظر عن الموضوع، فالموضوع ليس كل شيء في القصة، إذ ان الموضوعات ملقاة على قارعة الطريق، يلتقطها الكاتب المبتدئ والكاتب الذي استحصدت ملكاته، وإنما المهم طريقة الكاتب في علاج موضوعه وتجلياته، فالفلسفة العميقة وعدم الاكتفاء بالقشور في هذه القصة والمعالجة العقلية بعيدا عن لغة الخطابات وحروب الطواحين في اعتقادي كانت الكلمة السر في عبقرية هذه القصة التي كتبها في حينها طالب جامعي كان يخطو خطواته الأولى في ميدان القص الأدبي والنطق بلسان المجموع.