لا أحبُّ الأغاني العنجهيةَ الأردنية. تلكَ التي تظهرُ فيها الذاتُ الوطنيّةُ متضخِّمة، إنْ لم أقلْ شوفينية، أو قبليَّة، ولا أجدُ تفسيراً لتكرارها على الإذاعاتِ المحليَّة سوى أننا نبحثُ عن وطنٍ آخر في الأغاني. أو نريدُ وطناً موغلاً في البداوةِ، ومتحفِّزاً لحروبٍ مُفترضة، مع عدوٍّ متخيِّل.
لعلَّها تشبهنا تلكَ الأغاني. فنحنُ نسمعها ونردِّدها، مثل أكاذيب طَرَبيّة، يُحرِّكُ أحدنا إبهامَ قدمهِ اليسرى عندَ سماعها، وتأخذهُ النشوةُ والحماسةُ، فيتهيأُ لمعركة. ربَّما لأننا لا نُصغي إلى تلكَ المفرداتِ الساذجةِ التي تصوّرنا شعباً متباهيًا، ومتعالياً. وليسَ شعباً متعلِّماً وشاباً ومصرَّاً على الْحَيَاةِ في منطقة مزروعةٍ بالموتِ والدمار.
يغيبُ الوطنُ، بصفته مكاناً جميلاً متنوِّعاً وجدليّاً في الأغاني الجديدة، لصالحِ قيمٍ ومشاعرَ بدائية غالباً، كالثأر والانتقامِ، وكلّ ما يجعلُ الذات الوطنية متورِّمة وأحاديّة. تغيبُ الجبالُ والشوارعُ والحبُّ والشرفاتُ والمرأةُ وازدحامُ الطرقات، فأكثرُ أغانينا عن الحرب في بلدٍ مُسالمٍ يحسبُ نجاته يومياً، ولا طاقة له على خوضِ أيِّ حرب.
في الستينات والسبعينات والثمانينات، حيثُ كنّا في خضمِّ الحروب والتهديدات، كانت أغانينا أقلّ عنفاً وأكثرَ جمالاً. كانَ جورج حداد وحيدر محمود ونايف أبو عبيد وسليمان المشيني، وغيرهم. ثم لاحقاً حبيب الزيودي يكتبون عن الريف والورد والنَّاس والفلاحين والعسكرَ.
غنَّتْ فيروز "عمَّان في القلب" و"أردنُ أرضَ العزم" لسعيد عقل، وغنّتْ نجاةُ الصغيرة "أرْختْ عمّانُ جدائلها فَوْقَ الكتفين" لحيدر محمود. وغرسَ توفيق النمري في الوجدان الأردني أغنياتٍ خالدة عن الريفيات والمدن والجيش والشهداء، في أعقاب نكسة الروح القومية مع هزيمة حزيران 1967، ثمَّ استردادِ الآمال قليلاً، بعد معركةِ الكرامة التي توحَّد فيها الدمُ الأردنيُّ والفلسطينيُّ، ثم تشرين الأول (أكتوبر) 1973، حينَ كنّا في الجولان، ولم يغادر جنودنا ساحتها، واحترقوا في دباباتهم.
كان للإذاعة الأردنية شعراء وملحنون أعادوا صياغةَ فلكلور الشام، وأضفوا عليه نكهةً أردنيةً بصوتِ سميرة توفيق وميسون الصنّاع، وسهام الصفدي، وقبلهنّ سلوى العاص وعبدة موسى وسماهر، ومعظمُ هذا التراث ضاعَ أو تشوَّهَ مع تخلّي المؤسسة الثقافية عن فرقة الفحيص، وغيرها. ولم تتطورّ الأغنيةُ مع المطربات والمطربين الذين ورثوا كلّ ذلك، واستسهلوا نسْخَهُ، من أجل الحفلات والمناسبات.
نَحْنُ الآن لا نريدُ أنْ نحاربَ، إلا إذا كنا مضطرين لمواجهة الإرهابِ على حدودنا الشمالية والشرقية.
لا نستطيعُ أنْ نحاربَ إِسْرَائِيلَ عسكريَّا، فنحنُ لا نقوى على هذه الكلفة، إلا لندافعَ عن ما تبقى من نجاةٍ في هذا المكان المنذورِ لنكباتِ الجوار، وتظلُّ أغنيتنا تحاربُ وحدها في بلدٍ ينتظرُ المساعداتِ شهراً بشهر، ويخشى عندَ كلِّ شتاءٍ من ارتفاعِ أسعار المحروقات، ويحترقُ بأكثرَ من نار.
خذوا مثلاً أغنية "عمّان" لفارس عوض، من كلمات علي عبيد الساعي، وقارنوها بما تريدونَ من أغاني الرشاشات والمعارك وطواحين الهواء. خذوا الكلمة التي تدمعُ في عشق المكان. خذوا الحُلمَ والصورة والنَّاس. واحذفوا الغضبَ والحربَ والألم. تلكَ كانت أغنية، حيثُ الأغاني أزهارٌ لا شوك. قصائدُ حبٍّ وقلائدُ ياسمين، لا صلية رشَّاش، ولا "فشخرة" فارغة بسيّاراتِ شركة "رنج روڤر" البريطانية.
أغنيتنا الجديدة غاضبةٌ وعنيفةٌ وتستعدي بَعضنا على بعض. أعني أغنيتنا التي لا توحِّدنا في إذاعاتنا التجارية، وتعزفُ على وتر الجمهور والإعلانات. كانت لدينا إذاعةٌ واحدة بإمكاناتٍ بسيطة، لكنها كانت قادرة على هذه المهمَّة في ظروفٍ محلية وإقليمية أشدّ قسوة.
نريدُ أغنيةً عن شارع السلط، وعن الخبزِ. عن ليل إربد وعمَّان والكرك. عن فراس العجلوني وعزمي المفتي ومعاذ الكساسبة، بشرطِ أنْ تكونَ أغنيةً، لا دعايةً تجارية عن سلعةٍ كاسدةٍ في الوجدانِ، وفي المستقبل..