عقدين من الزمان ما كنت للحظة ظننت أو خاطني مجرد شعور بأنك مجرد حجر وحديد واسفلت ، فقد كنت أمامي كائنا يتنفس ويعيش معنا تفاصيل الحياة ،فقد عودتنا أن نبدأ صباحنا على عتبات أبوابك وفي المساء تودعنا عيونك الحانية ،والعهد بيننا أن نعود لنعلن الفجر سوية نهارا بعد نهار ، وفي ليلنا ما كان يُغرينا البعد فقد كنا نعود نبحث عنك في أحلامنا التي لا تغادر أهداب عينيك ، فعشقنا ميثاقٌ غليظ لا ينتهي لعارض ، ولا ينقضي بإشارة من عابر طريق .


اليوم أيها المتأهبُ للرحيل نتوشحُ وإياكَ بمشاعرِ الفراقِِ الموجعةِ ، فقد حزمنا حقائبنا ولملمنا ذكرياتنا الطويلة التي طالما اختزنتها ساحاتك وأفنيتك وانتظرنا هناك على بعد خطوة من قلبك الجريح نسأل وسؤالنا ألم وبكاء ورجاء

الى أين المسير ؟ وهل سنعود ذات يوم كما كنا من عقود نفتح دفاترنا ونكتب فيها سرَّ عشقنا لك ؟ ولنعلن كذلك أمرا ليس بسرٍّ أن العقبة ليست الوحيدة من كانت تتكيْء على خاصرتك ، ولسنا وحدنا من عشقْتَ وأحببْتَ ، فقد كنت رائعا حين مددتَ شرايينك من قلبك الدّفاق حتى سهول حوران ،ولم تستثنِ أصغر زقاق من أزقة الوطن ، وكنت تحيرنا عندما كنت تبتسم ويعلو ضجيج فرحك كلما ازداد ألمك ، وقد عرفنا منك بعد ذلك سر هذا الفرح ، حين أخبرتنا أن العطاء لا يكون الا بعد ألم.


يعزُّ اليوم علينا أن نراك تلملم شرايينك الجريحة ، كما لملمنا ذكرياتنا المكلومة من قبل ،وتنفطرُ قلوبنا حين نلمحك تنظرُ في الوجوه ،وتبحث في صمتنا عن اجابة لسؤالك الكبير ، ولكنك تُصدمُ حين ترى أن الجمْعَ مثلُك تُلجمهمْ الحيرةُ ويتلفعون بذات السؤال.


نعم – يا سيدي – لا نملك اجابة ، وقد تطوينا دفاتر الأيام قبل أن تعلم ونعلم

لما كان هذا الفراق ، ولكن ما نعلمه يقينا أنك كنت رائعا وجميلا وطيبا وكريما وفوق كل ذلك كنت حانيا ودودا ، ولأنك كل هذا نُهديك تلك الدماء التي سالتْ على ساحاتكَ وأرصفتك ، هذه الدماء التي ما كانت لتسيل إلا للحظة عشقٍ وانتماءٍ لا يعرفها الا من سمتْ نفسه، فبذلها لعينيك الرائعتن، ولأنك كل هذا وأكثر منه أيها الراحل الرائع ، استأذنك عشية هذا الرحيل الحزين ،أن تسمح لي بأن أمارس بعض الحزن، وأذرف دمعة حرّى عند أبوابك الخمسة .