إليك يا ياسر .. يا آخر العنقود
عبد الهادي راجي المجالي
03-11-2015 05:31 PM
أمضيت يومي أمس أعلم ابني ياسر (اخر العنقود) الكتابة، وهو في الصف الثاني ويجيد القراءة، قد يتعثر قليلاً في التاء المربوطة، وقد يتلكأ في قراءة الكلمات التي تتجاوز الأربعة أحرف.. ولكنه يمضي في خطاه غير مكترث...
سيدي وابني وحبيبي...
حين أنجبتك، داهم الفرح وجهي... وقال لي عمي يومها:- هل تحب الذكور أكثر من الإناث، هل تميز؟...
قلت لعمي وقتها :- كلا ياعم...البنات أغلى، ولكن ياسر سيكبر.. وحين أودع تراب الجنوب الأغن، وتحملني الأكف مسجيا عليها.. سأنام في مستقري الأخير قرير العين، ذاك أن شقيقا لابني الأكبر (زود) سيقف في الطابورمعه ويأخذ.. (بجبر الخاطر)... وتقبله العشيرة، ويمضي حاملا اسمي وإرثي وكل خطاي المتعبة... وربما سيقلب الأيام، سيطويها.. فقد طوتني..على الأقل يا عم سأضمن موتا مريحا.
يا ياسر.. يا اخر العنقود..
سنقفل الكتاب.. ودعني أعلمك ما لا تعلمه بعد، إن الوطن يا حبيبي ليس تراباً ومدناً يملؤها الفقر... إنه الذكريات التي أسسناها، والبارود الذي أشعلناه.. والجدائل التي تهنا في غرامها فأنتجنا من حواف الكؤوس ومن حنائها كل القصائد...
تعلم يا ياسر... من (ابن عدوان)... تغريبته، وكل أبيات الوجع.. تعلم من صالح المجالي حنين القلب :- ( دني القلم وأبيض القرطاس..وبخاطري نظم بيتين) وتعلم من صايل الشهوان.. أن السيف يقارع الدبابة، أدري أنه جنون ولكننا بنينا شخصيتنا على الجنون والرفض.... وتعلم، من وصفي التل... كيف يكبر الحلم أكثر وكيف تصبح بلادك في لحظة عملاقا، لا تكسره العمالقة... وأحفظ من وصفي جملة قالها على سلم الطائرة أو سلم الموت :- (مادام سراجنا في زيت خلوه ضاوي)...
يا ياسر يا حنين القلب وكل نبضه...
إياك أن تتخلى عن إرثك وهويتك، وتعلم.. كيف (تشرب) على الرجال حين يجتمعون على المنسف، وإياك أن تضع العقال بشكل، يشبه السياح الذين أتوا للبتراء.. فارتدوه من قبيل مشاركتنا عاداتنا... تعلم أن تمل العقال قليلا.. وأن يكون نقش الشماغ إمتدادا لحاجبيك في الغضب....وتعلم أن تقبل وتعانق (عيال العشيرة)
وأن تحفظ كل شعرنا النبطي... فالشعر مفتاح للغرام وأنت سيد الغرام....
ياسر ولدي حبيبي وكل وميض العيون...
أعد فينا زمن سميره توفيق إني مشتاق، لهدير الصوت...واطرد، زمن (الداتا شو) وحملات التبرع وطرود الخير... نحن لسنا شحادين على ابواب الحكومات وفقرنا جرح نحفظه في الصدر... ولم نكن يوما بحاجة لمندوبة مبتدئة في الإعلام تزور الكرك وتعرض وجوه الناس على الشاشات وهم يتلقون بعضا من أكياس الرز...وعبوات الزيت.
نحن رجال يا ياسر، وطز في كل الشهادات التي جاءت من (هارفارد) فكل الذين تخرجوا من هناك أسسوا في العالم الاستعمار، وأسسو العبودية.. ونهبوا خيرات الأوطان، ونحن من بيت الشعر...أسسنا التسامح وحماية الغريب...لا تقرأ في (هارفارد)، ولا اريدك أن تدخل (لندن سكول)...أو ( جورج تاون) من تخرجوا من هذه الجامعات هم من أعطوا الإشارة لقتل مارتن لوثر كنج...هم من حكموا أمريكا بنظام فصل عنصري مقيت، هم من أذاقونا أبشع صنوف القهر وهم من دمروا العراق وليبيا وهاهم يقضون على مجد الشام...يا ياسر كل تلك الأسماء هراء..مجرد أسماء وأشياء ابتدعتها الحكومات حتى تبعدنا عن القرار وعن حلمنا عن دولتنا عن وعينا...
يا ياسر... يا كل الأمل..
إياك أن تقرأ في الاقتصاد... فكل ذلك دجل، ولا أريدك أن تحمل أوراقا مليئة بالأرقام وتدخل إلى اجتماعات، يرتدي فيها الرجال ربطات عنق فاخرة... ويتحدثون عن مكافحة الفقر ومشاريع البطالة، إياك يا ولدي فتلك توريطة ستدينك مستقبلا وتجعلك شرها وعاشقا للمال.. وتذكر أن من بنوا هذا الوطن هم البدو... بنوه من بيوت الشعر ومن وميض العيون، تذكر أن من (بردوا) شوارع عمان وحموها.. من العسكر، كانت كل أحلامهم تتلخص في الرضا وبناء غرفة إضافية في المنزل.. تذكر أن من خاضوا المعارك في الجولان وفلسطين، هم أولاد (منيفه وحوريه، وحليمة)... هم أولاد النساء اللواتي يقمن في الهزيع الأخير من الليل على سجادة الصلاة..ودعواتهن كلها (للعيال) ورب الاسرة... وأن يكون الجو صافيا حتى لايبلل المطر الطابون، ويتلف العجين.
يا ياسر...
اختصار الحكاية سهل، الاردن هرب مني... أو هربت منه، ضاع مني أو ضيعته لا أدري.... ولكني مهزوم يا ولدي من أول الرأس، حتى آخر خفقة عشق في القلب... مهزوم جدا، وأريدك أن تسترد فينا الانتصار... نحن عدونا في ذاتنا في ترابنا في مؤسساتنا، في تغيرنا في انقلاباتنا، في شكل حكوماتنا...
يا ولدي..يا ياسر
وحين تمر عليك العشيرة، وأنا مسجى تحت التراب... والندى يبلل عظامي.. ستقرأ في عيونها خفوت الوميض وحجم
القهر، فاشحذ لحظتها الوعي... إشحذ كل طاقاتك... وقرر أن ترد فينا الإنتصار، فقد هزمنا يا ولدي.