الأردنيون يعيشون فقراء ويموتون أغنياء رغم أنف هامان
04-06-2008 03:00 AM
اللصوص لا يحبون " النواطير " .. لذا فإن مابين العزة والمذلـّة مسيرة مليون سنة ضوئية لشعب إما ان يرفع وطنه فوق الرؤوس والجماجم دون أن يهتم لأن يراهم أحد أو يهتم بهم .. أو يدوس على كرامته حينما يدوس ترابه ليراه العالمين فيقولون هاهم الإنجازيون .الأردنيون عمّروا هذه الأرض قبل ان يولد فجر الدولة ، وبعدها بدءوا يتبادلون الأدوار في مهمة تنظيف زجاج الشمس كل صباح ليبقى وطنهم وضاءا لا مكان فيه للخفافيش .. ولكنها سنّة الحياة إذ لا بد من دخول عنصر النكران ، وإدارة الظهور اللئيمة للوجوه الكريمة ، ليحرم البدوي من رعيته ، ويقتلع الفلاح من بين سنابل حاكورته ، و يطرد الحرّاث عن سكة دابته ، ويتهم الناطور بأنه سرق خبز جارته .
أهل البادية .. أو ما كما يتهكم البعض عليها بأنها صحراء .. لا يزالون على جنبات الطرقات من عمان الى معان ، ومن أربد الى الكرك ، ومن المفرق الى الأغوار ، ومن الرويشد الى العقبة ، لا يزالون قابضون على جمرّ الوطن بأهازيج الحب والحنين من دونما رطنّ .. ولا دسائس أو فتن .. غير آبهين بمكيفات الجو فوق رؤوس المصنعيين و تجار الأوطان وأهل السياسة الذين أرهقوا في تعلم فن الكياسة ..
خلف تلالهم ذكريات بطولات الحماة ومؤسسي الجيش الذي حمى الأرض ومن عليها ، وأخلص للعرش دونما طمع ، مفضلين شظف العيش والورع ، على امتصاص نخاع المكان ، والتفاف أذرعهم حول الزمان .. غير ملتفتين الى تجار التعليم ، في الشامخات من الجامعات على تلك الطرقات أمام تلالهم الحزينة .. فجامعاتهم مؤسسات غير ربحية ، بل يجودون عليها بالغالي دون الرخيص ، مهمتها تخريج رجال يكرّون ولا يفرّون أمام أول صرخة أنثى عدوة ، كالعصفور يعجبك ريشه ، قبل أن يطير مرعوبا من صوت الرعد . . يحبون الوطن دون ان يتمتعوا بشواطئه ومرابعه ونواديه وبنوكه ودكاكينه وعطاياه .
يعشقون الملك لأنه رمز وحدتهم حتى دون ان يصافحوه أو يلاقوه ، أو ينامون على بلاط عرشه ، أو ان يكون وليّ نعمتهم .. وتبرير ذلك بسيط .. بل أبسط من البسيط .. فالمحبة ليست بضاعة تستطيع ان تشتريها من \" الرغبة مول \" ، وهي الشيء الوحيد الذي تعجز كنوز العالم عن توفيره ، و هل هناك أروع من حب بلا انتظار ثمن .. أو كيل مديح .. أو انتظار طابور ليدبك خلفك ويسحج .؟
يهلّون ويرحبون بإخوانهم وضيوفهم وعابري طريقهم دون انتظار هداياهم وقيم البدل ، والقيمة المضافة على أرغفة الخبز التي قطعوها عن أفواه فراخهم ليقدموها لمن كانوا ضيوف أحداقهم ، يفرشون لهم رمش ويغطوهم برمش ، قبل ان يسألوهم عما يريدون أو ماذا يُضمرون .. وهم لا زالوا على العهد باقون .. لا يضيرهم إن ماءت هرّر الضيوف ، أو بال أطفال القوم على قبور آباءهم .. أو تأبط \"أبو حنيك \" وسادة قصرهم .
مربوا الماشية وفلاحو الأرض واللابسين في العسكرية .. كانوا كما التاريخ شاهدا على الأحداث التي يُزوّرها أحيانا المتنبّي أو متعطيّ أو مؤرخ يكتب التاريخ حسب أسعار صرف العملة ، فأرّخوا للثورة العربية الأولى عام ستة عشر ثم التأسيس ، وثورة العرب في فلسطين الحبيبة في السادسة والثلاثين ، ثم الإستقلال ، وحرب الثمانية واربعين ثم مرحلة البناء ، وحرب الأيام الستة ، ولم ينكصوا .. واليوم نراهم في كل واد يهيمون ، ومن على باب الإنصاف مطرودين .
نراهم وقد أصبحوا في هزيع الليل ذئاب في عيون اللصوص .. فكيف للنواطير أن يحبها اللصوص .. وهل امتزاج الدم وتذوق طعم العرق الذي نزّ من الجباه ، و نزف الدماء من الكف بعد اقتلاع الشوك منها ، هل يحتاج الى نصوص ؟
إنهم لا يطلبون الكثير .. فنظرة واحدة لا تضير يا حكومتنا ، ويتركون عيونك كلها لمن يدوخون عشقا في الدوار الرابع وأهله .. يريدون فقط ان تعطيهم الحكومة بعضا من حنانها ، فهم لا يطمعون أبدا بأثدائها ، فليرضع منها المشّاؤون بالنميمة والحسد والبغضاء وكراهية الشوارب .
علاقتهم مع الأرض والنعجة تشبه علاقة \" أبونا آدم \" مع الأرض حين استخلفه الله تعالى فيها ، فزرع القمح وأنبت العطاء .. وعمرّ الأرض لبني البشر من بعده حتى ملكها البرامكة يوما .. وعلاقتهم مع الرعي كعلاقة موسى عليه السلام حين استأجره شعيب نبي الله ، فكان خير من استأجر ، قوي وأمين .. ليعود الى عدو الله وعدوه ليهديه سبل الرشاد ولم يفلح ، وأفلح في رضى الله وبني قومه رغم أنف هامان وقارون بما ملكوا من سلطة ومال .
هؤلاء هم الأردنيون .. ماء بارد يثلج الصدور ويطفىء الضمأ طالما كان باردا .. وحار حارق إن بدأ بالغليان فيحرق الأوصال ويذيب الأكباد .. والنار تغلي الماء البارد والماء المغليّ يطفىء النار ، وكل دَينّ على صاحبه همّ ، إلا دَين الوطن .. فهو صدقة جارية في سبيل الله إلا أن امتدت له يد كـّيد \" الجلبيّ \" دخلت مصافحة ، وخرجت سارقة ، فما أقذر الكلب الذي يعض اليد التي أطعمته .
إن الزراعة والفلاحة والرعي .. مهمة نبيلة ، فكل مسؤول يتقاعد إلا من كان مسؤولا في هذا القطاع فإنه لا يتقاعد ، إلا ان يقاعده الموت عن مهمة الحياة ، أو تطرده الدنيا من رحمة أهلها .. فقالوا فيما قالوا : زرعوا فأكلنا ، ونزرع فيأكلون .
فهل سأل أصحاب الدولة والمعالي والعطوفة والسعادة والأقلام خروفا عن \" سيرته الذاتية \" قبل أن يتلذذوا بالتهامه على موائد تضيئها الشموع التي تضارع حياة من ربّوا هذا الخروف ليتربع على عرش موائدهم ، يحترقون ليضيئوا للآخرين سبيلهم ، ويجوعون لتمتلئ بطون أصحاب القصور .. وتلفحهم شمس الأغوار بسياطها ، لتزين موائدهم خضار الخس والبندورة وأخواتها في أطباق سلطات السيزر وأشباهها ، بينما تنام القاطفات بين أكوام لحوم أطفالها في خيام الحرمان ، مستمتعين برائحة ثيابهم التي من شدة عشقهم بها لا يستبدلونها إلا في مواسم الأعياد ، هذا إن مرّ عليهم موسم العيد ، ولم يقبض عليه مليونير في دابوق ولم يطلق سراحه .
كلمة أخيرة قبل أن ألملم أوجاع بني وطني وأرحل لتشابه كثير من المواقف .. فقد سائني مشهد لأخوة من بغداد الرشيد وهم يلوون أجسادهم رقصا على أنغام المغنيين في عمان ، في وقت يُنحر وطنهم من الحدود الى الحدود ، وتـُشرد خراطيم الدبابات وأمطار البنادق الأمريكية والأعجمية أطفالهم و النساء .. ويذبح شيوخهم كذبح الخراف في بلدي .. لتقدم قرابين لسادن شرور العالم الأكبر الذي يقدم لنا القمح بلا نخالة ، لتخبزه عجائزنا في يوم شهوة لرغيف خبز بلدي على تراب أرض أصبحت يبابّا بفضل من سرقوا المياه من أرضنا ، والعزيمة من رجالنا ، والحياء من نساءنا ، والإنتماء من عقول أطفالنا ..
الاردنيون الطيبون من شتى منابتهم وأصولهم .. يعيشون فقراء لشدة كرمهم وكرامتهم .. ويموتون أغنياء لعفتهم وفوزهم برضى ربهم رغم أنف الغراب الذي رقد في عش الحمائم .. أفليس بينكم رجل رشيد ؟
Royal430@hotmail.com