منطقيا، وبالقياس المبني على المنطق، وبعيدا عن التشنج والانفعال العاطفي، وواقع الولاء والإنتماء المبنيين على أسس غير صحيحة، بل يرتبطان بالمصالح والهوى الحزبي أو الطائفي الضيق، فإن الرئيس السوري بشار الأسد الذي جاء إلى الحكم صدفة بعد إغتيال أخيه باسل، الذي كان معدا للحكم، سوف يرحل مكرها من قبل الروس الذين رتبوا أمورهم في سوريا وفكروا بالعقلية القيصرية، التي تقول أن أمن روسيا القومي يبدأ من دمشق، وعليه حضروا عسكريا إلى سوريا لإنهاء اللعبة، بالتراضي طبعا مع الغرب وسيدته أمريكا، وبالتعهد بحفظ مصالح مستدمرة إسرائيل في سوريا على وجه الخصوص، ولا أظن أن الروس تشاوروا مع عربي واحد حول هذه الخطوة.
قبل الغوص في التفاصيل، لا بد من التأكيد على أن نهاية اللعبة في سوريا وأطرافها بطبيعة الحال، النظام المتعنت الذي سرته هذه النهاية، وبقية الأطراف التي فرخت "جهادا" بعيدا عن أصوله واهدافه، قد شارفت على الانتهاء، ورأينا كل مخابرات العالم تزحف بمتطوعيها ومتطوعاتها إلى سوريا.. داعش نموذجا، كل ذلك من أجل تاجيج نار التقسيم وفقا للمشروع الأمريكي الذي صاغه بيرنارد لويس بداية ثمانيات القرن المنصرم،والنسخة الإسرائيلية طبق الأصل "وثيقة كيفونيم " التي أقرها الإسرائيليون في 11 حزيران عام 1982،أي في الوقت الذي سمح لهم جيش حافظ الأسد الذي كان محتلا للبنان آنذاك، بالتوغل للقضاء على المقاومتين اللبنانية والفلسطينية ومن ثم إحتلال بيروت، دون أن يبدي ذلك الجيش "العروبي" أي حراك لمواجهة الغزاة.
نعود إلى رحيل بشار الأسد، ونستند إلى التدخل الروسي أولا كمفتاح يقودنا إلى مبتغانا، بمعنى أن التدخل الروسي جاء في هذا الوقت بالذات ليضمن تقسيم سوريا، وإنشاء كانتون علوي طائفي يحكمه نظام الأسد بغض النظر عن الاسم، وبطبيعة الحال فإن هذا الكانتون البحري الساحلي يضم قاعدة طرطوس الروسية البحرية، وهي القاعدة الوحيدة التي يمتلكها الروس على شواطئ البحر المتوسط، والتي صرح الرئيس بوتين بشأنها تصريحا ناريا العام الماضي قال فيه، أنه لو إنتقل القتال من بيت إلى بيت في موسكو فلن يتخلى عن سوريا، وبطبيعة الحال أيضا فإنه كان يقصد قاعدة طرطوس البحرية، والتي لو خسرها، لما قامت قائمة لروسيا لمئة عام مقبلة.
المفتاح الذهبي الآخر الذي سيقودنا إلى حل لغز قضية رحيل الأسد من عدمه، هو تلك الزيارة العجيبة الغريبة التي قام بها الأسد إلى موسكو والطريقة التي ظهرت فيها المحادثات، ولعمري أن أي جاهل في موضوع البروتوكول ينتهي إلى أن ما جرى لم يكن زيارة ودية، بل استدعاء قسري، كان الروس قد خططوا له جيدا واعدوا له جيدا أيضا، إذ ظهر الأسد مشدوها وجلس المترجم على يمين الرئيس بوتين بعيدا عن الأسد، كما ينص البروتوكول وهو أن يجلس المترجم بين الضيف والمضيف، لكن هذه الحركة لها معنى ومغزى في المجال الدبلوماسي، وما فهمناه هو أن بوتين المنقذ إستدعى الأسد وأبلغه أنه – أي بوتين – هو صاحب الولاية في سوريا، وبالتالي فإن على الأسد الإذعان لإملاءات بوتين ويرحل أو يوقع على صك يتعهد فيه بتلسيم منصبه كرئيس لأحدهم وهذا الحد طبعا سيكون صنيعة موسكو أو على الأقل متفق عليه بين موسكو وواشنطن على وجه الخصوص.
بالأمس خرج علينا مركز النذير السوري للدراسات بقنبلة معلوماتية مفادها أن موسكو تدير حاليا لعبة تبادل الأدوار في سوريا، وأنها تخطط لتسليم السلطة في سوريا إلى نائب الرئيس السوري المنشق فاروق الشرع، وهو بعثي بطبيعة الحال ومحسوب على أمريكا وأحد أعضاء خليتها المركزية التي تولى أعضاؤها مراكز قيادية متقدمة في المنطقة.
يقول المركز أن موسكو إستدعت الرئيس بشار الأسد ونقلته على متن طائرة إليوشن 62 غادرت مطار تشاكالوفوسكي العسكري القريب من موسكو ومرت عبر أجواء إيران والعراق بعلم التحالف الأمريكي بطبيعة الحال، وعلى متنها في رحلة الذهاب نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف، ثم عادت عبر ذات المسار وعلى متنها ثلاثة أشخاص آخرين هم : الأسد نفسه ونائبه المنشق والمستضاف في السفارة الروسية بدمشق منذ عدة سنوات فاروق الشرع، ومدير مكتبه في القصر الجمهوري.
وتابع مركز النذير أن بشار الأسد وقع على صك تعهد فيه بالرحيل وتسليم السلطة الإنتقالية لنائبه المنشق فاروق الشرع،وتم منحه ثلاثة أشهر تنتهي في منتصف شهر كانون ثاني /يناير المقبل،لإعلان ذلك والتمهيد له مع إحتفاظه بأمواله المنهوبة وخيار البقاء في الإقليم العلوي بحماية روسية، أو الإنتقال للعيش في موسكو قريبا من الكرملين.
والمبهر في هذا الموضوع أن الرئيس بوتين سارع بإبلاغ كل من الرياض وأنقرة بهذا الإنجاز، وبالتأكيد جرى إبلاغ نظيره الأمريكي، وعاد الأسد إلى دمشق مع مدير مكتبه فقط، في حين بقي الشرع في موسكو لقيادة الحوار المنتظر مع المعارضة السورية "المعتدلة"، والتمهيد للسلطة الإنتقالية.