قبل مجيء الإسلام ونبي الرسالة كان العرب أشلاء ممزقة، وتجمعات متناثرة لا يجمعها جامع، ولا يربط بينها رابط، ولم يستطيعوا تشكيل قوة موّحدة، تجمع شتاتهم، وتوّجه فاعليتهم نحو امتلاك القدرة على إدارة أنفسهم بأنفسهم، وحماية بلادهم ومقدراتهم، وتأمين مستقبل أجيالهم وشعوبهم، وكانوا مقسمين بالتبعية بين الفرس والرّوم، ويتقاتلون فيما بينهم لمصلحة الأطراف الخارجية.
جاء الإسلام لينقذهم من حضيض التخلف والتبعية، ويجعلهم أمة فكر و رسالة، ويوحدهم تحت مظلة واحدة، تقود جموعهم باتجاه تحرير أرضهم وديارهم، ومن أجل السير في طريق البناء والنهوض، وتشكيل الشخصية المستقلة ذات البعد الحضاري والمنظومة القيمية النبيلة.
لم تستمر هذه الخطوة الجبارة في مسارها التصاعدي، فها نحن نشهد في القرن الواحد والعشرين عودة القوى الخارجية مرة أخرى لتتقاسم النفوذ والأرض والإنسان، وأصبح العرب مرة أخرى أشلاء ممزقة وتجمعات متناثرة، تتقاتل فيما بينها بإدارة خارجية، وعدنا نحن للتنافس في حلبة التبعية بطريقة مشابهة تماماً، وتستطيع استجلاء هذه الحالة الهابطة عندما تقرأ الحوار الدائر في الصحف والمجلات، وفي الصالونات السياسية ومجالس العزاء، الذي يدور بين فريقين، فريق يؤيد روسيا وإيران، ويرى أنها بوابة الحل الرئيسي للأزمة ويكيل المدح لتدخلها وضربها واستعمالها للقوة العسكرية، ومنهم من يستجدي الولايات المتحدة والمعسكر الغربي للتدخل من أجل التصدي للروس وحلفائهم، ومن أجل إعادة استقرارنا وبناء أنظمتنا السياسية.
السياسيون والمتحزبون والمعارضون والموالون بمختلف ألوانهم واتجاهاتهم وأفكارهم، التقليديون منهم والمعاصرون؛ لا يخرجون من هذا الإطار المرسوم والسقف المرفوع من قبل هذه الأطراف الخارجية على الصعيد الإقليمي والعالمي، فهناك من يمدح الأتراك، وهناك من يمدح الفرس، وهناك من يستمد قوته من روسيا وحلفها، وهناك من يستمد قوته من الجهة النقيضة.
لا مجال أمامنا إلّا أن نعيد تحرير أنفسنا من رق التبعية بكل أشكالها، وأن نعيد بناء أنفسنا بأنفسنا، وأن نعمل على توحيد أمتنا من أجل امتلاك القدرة على حماية أرضنا ومقدراتنا بأيدينا، ونقطة البداية تكمن بتحرير العقل أولاً وإعادة بناء الجيل، ويجب أن تتعاون على ذلك المؤسسة التربوية والمؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، عبر رؤية واضحة تقوم على إحداث ثورة فكرية نفسية داخلية تدور رحاها في رحاب الفكر والوعي الذاتي الواسع.
الأطراف الخارجية المتصارعة تريد أن يبقى الوضع العربي على ما هو عليه، ويريدون لنا أن نبقى متفرقين ومتصارعين ومتقاتلين، لأنه عبر حسبة بسيطة عندما تنتفي الفرقة والنزاع فيما بيننا فلن يبقى لهم موطىء قدم، وينبغي أن نقرر بجزم أنه لا فرق بين العمالة للشرق أو الغرب، وليس وطنياً من رهن نفسه لأحد الفريقين، لأن القوى الإقليمية الخارجية تسعى لتحقيق مصلحتها الذاتية عبر ضعفنا، وهي لا تمارس العمل الخيري بكل تأكيد، ولذلك على الجيل الجديد أن يدرك هذه الحقيقة بلا رتوش ولا ضبابية، إذا أراد أن يصنع مستقبله الجديد المختلف، وصدق أصدق القائلين عندما يقول ولا زال قائلا : «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ».
الدستور