لا أتحدث عن نشاط ملك الموت العام. تكفي نشرة أخبار واحدة لنعرف حصاده الوفير. أتحدث عن الخاص الذي حوّلنا إلى رثّائين. ما أن يموت صديق حتى نودّع آخر. سوف يظل يحدث هذا كلما تقدمنا، أكثر، في السنّ، إلى أن لا يبقى ممّن مشوا معنا خطوة أو خطوتين أحد، أو أن نذهب قبلهم فنتوقف، والحال، عن استحضار الأرواح. منذ رحيل صديقي الشاعر المصري، حلمي سالم، توقفت عن رثاء الأصدقاء الراحلين، أو حتى عن التوقف أمام الكتّاب الراحلين عموماً. قبل أكثر من ثلاثين سنة، طلب محمود درويش من أصدقائه أن يتوقفوا عن الموت سنة واحدة فقط:
"أصدقائي، مَنْ تبقّى منكمُ يكفي لكي أحيا سَنَهْ (...) سَنَة وَاحدةً، تكفي لكي أحيا حياتي كُلّها دُفعةً واحدةً، أو قُبْلَةً واحدةً، أو طلقةً واحدةً، تقضي على أسئلتي، وعلى لُغز اختلاط الأزمنهْ".
كان محمود درويش، وقتها، في الثلاثينات من عمره. وفي الثلاثينات من عمر المرء لا يموت له أصدقاء كثيرون، إلا في الحروب والكوارث. مات أصدقاء درويش، في تلك "الأزمنة"، قتلاً وغيلةً. لم يمهلوا ليعيشوا حياة تنتهي بموت "عادي". كانوا يموتون لأنهم اختاروا أن يموتوا. في حياة الثورة يحدث هذا. بل هذا طبيعي جداً. فأنت تختار طريقاً محفوفاً بالموت. كأن بيد أصدقاء الشاعر أن يختاروا موتهم، فيطلب منهم تأجيله، لسبب في نفسه. إنه يريد أن يحيا عاماً واحداً بلا موت. ولكن، أي طلب هذا؟ كيف تطلب ممّن وضع روحه "على كفِّه" أن ينزلها أرضاً، ويتركها تدرج مثلما تدرج حياة الآخرين التي يترصّدها الموت من جهة أخرى، غير القتل العمد.
لم يمت لي أصدقاء كثيرون، حتى صرت في بيروت. كان الموت في بيروت كثيراً. ولكن، بعدها رحت أعيش، مع من نجوا من الموت المبكّر، حياة "الآخرين". تباعدت زيارات ملك الموت، حتى كدنا ننساه. ثم كأن فجأة "طبَّ" علينا. الفجاءة من طرفنا، فقد ظللنا نعيش زمناً داخلياً يأبى التقدَّم إلى حيث لا مناص من الاستحقاق الأخير.
في الأشهر الماضية، مات كثيرون ممّن أعرف. لم يقتلوا. ولم يموتوا غيلة إلا على يد المرض أو القهر. كلُّ هؤلاء أردنيون.
جمال أبو حمدان، الرجل الأكثر لطافة من اللطف نفسه، الذي يمشي على الأرض بأخفّ خطوة ممكنة، ويتكلم بصوت يخشى أن يجرح الهواء. داهمه السرطان من حيث لم يحتسب. كان قد خطط لحياة جديدة في مغتربٍ بعيد. رأيته قبل سفره بأيام، ولم أكن أعرف أني لن أراه في عمان، أو في أي مكان آخر، مرة أخرى.
ثم توفي الشاعر والناقد عبدالله رضوان، وهو مثال آخر للطف والطيبة. لم أر عبد الله، ابن الزرقاء مثلي، إلا مبتسماً. كان شيبه المبكر يُضاعف هذه الطيبة، ويصادق عليها.
ثم داهم الموت عبد الله حمدان، الكاتب والاعلامي، الذي يفيض رقة وطيبة. الابتسامة واللطف وخفَّة الخطوة على الأرض مساحة مشتركة بين الثلاثة الراحلين. لعبد الله حمدان فضل خاص على مدينته عمان التي أسَّس مجلتها الشهرية، وثابر على إصدارها، من جهة بلدية لم تعهد هذا النشاط من قبل، بلا كلل لنحو 15 عاماً.
ثم ها هو الشاعر والكاتب والمشاغب خالد محادين يرحل، بعد صراع طويل مع المرض. إنه الشاعر الذي قرأت، وأنا في مطلع عمري، عمله الشعري المميّز "صلوات للفجر الطالع"، ورسخت في ذهني قصيدة له أهداها إلى محمود درويش الذي لم يكن قد غادر الأرض المحتلة بعد "يلثم كفَّه ويذرف فوقها دمعة". وقبل أن يأفل عام الموت الخاص هذا، يرحل صديق آخر في مصر: إنه جمال الغيطاني الذي ظننت أنه سيخرج من نفق البياض الذي دخله. لكن، يبدو أنه رأى مركب "خارون" الذي ينتظر المسافرين عند ضفة نهر "ستيكس"، لينقلهم إلى العالم الآخر، ومن يراه لا يعود.
العربي الجديد