العلاقات الدولية والأزمة السورية بين الانكفاء الاستراتيجي الأمريكي والعنف العسكري الروسي
د. محمد خلف الرقاد
20-10-2015 02:16 PM
هناك صورتان تتسيدان العلاقات الدولية والمشهد السياسي الدولي في الوقت الحاضر ويمكن تلخيصهما على الشكل الآتي:
الأولى : صورة الانكفاء الاستراتيجي الأمريكي بالنسبة للمنطقة، وبخاصة إزاء ما يحدث في سوريا واليمن، والركون إلى استراتيجية القيادة من الخلف، دون التورط في مجابهات ومواجهات سياسية وعسكرية مع الاستراتيجيتين الروسية والإيرانية في المنطقة.
الثانية: صورة التدخل الاستراتيجي العسكري الروسي المتحمس إلى أقصى درجات العنف في سوريا، والذي يتجاوز الأهداف الروسية المعلنة بدعم النظام السياسي القائم في سوريا، ويخالف القانون الدولي للصراعات المسلحة.
هاتان الصورتان تجعلان المراقب يطرح أسئلة كثيرة، ولكن يقف على رأسها سؤال كبير وعلى درجة عالية من الأهمية ومفاده: هل ستنزلق الاستراتيجيات الأمريكية والروسية الجديدة بالعالم إلى حرب كونية جديدة؟، أم سيقود العمل العسكري الروسي العنيف واستراتيجية القيادة من الخلف إلى ميزات سياسية متوخاة تذهب بالعلاقات الدولية إلى تلمس مفاتيح الأمن والسلم الدوليين في المنطفة وفي العالم.
الأجواء السياسية محمومة بالتحليلات المتضاربة التي تعصف بمصائر بعض الشعوب مرة باتجاه الهاوية، ومرة توحي بالطمأنينة الحذرة.
إن ما يجتاح العلاقات الدولية الحالية من حراكات سياسية يوحي بقلق الأوساط السياسية الدولية، وبخاصة لدى الدول الحليفة للولايات المتحدة الإمريكية إزاء هذا الاسترخاء الاستراتيجي والسياسي، مما حدا بها إلى التحرك في اتجاهات مختلفة لخوض حوارات استراتيجية جرت بين اطراف المعادلة في الأزمة السورية (السعودية، الأردن، العراق، دول الخليج العربي، تركيا) كل على حدة من جهة وبين روسيا من جهة أخرى، وكذلك بين إسرائيل وروسيا من ناحية أخرى، إضافة إلى التنسيق الاستراتيجي (العسكري والسياسي) بين روسيا وإيران، والتنسيق العملياتي ما بين كل من روسيا وإيران والعراق وسوريا من خلال مركز العمليات المشترك الذي تم إنشاؤه في العراق.
على صعيد آخر هناك خطط أمريكية لدعم وتزويد المعارضة السورية والجيش الحر وغيرهما من الفصائل الموجودة على الأرض في سوريا بالأسلحة النوعية. وخلال الأيام القليلة الماضية تصاعدت حدة الحراك السياسي والاسترايجي لأطراف المعادلة في الأزمة السورية، حيث دعت الولايات المتحدة الأمريكية على لسان وزير خارجيتها إلى لقاء يضم هذه الأطراف الفاعلة والمنخرطة في الأزمة، وسط تصاعد في لهجة التصريحات السياسية السعودية ضد السياسات الإيرانية في المنطقة، والتصريحات السياسية الإيرانية ضد السياسات السعودية في المنطقة، بالإضافة إلى تصريحات روسية ملفوفة بثوب الغموض، والتي بنيت على أساس أن دعم المعارضة وغيرها من الفصائل المقاتلة على الأرض في سوريا هو دعم للارهاب، على خلفية أن الوجود الروسي في المنطقة يهدف إلى محاربة الإرهاب. وتشير التصريحات المتبادلة بوضوح إلى أن هناك تقاطعاً صارخاً بين تصريحات وزير الخارجية السعودي الذي أكد على أن إيران دولة محتلة لسوريا، وعليها أن تنسحب منها – ولعل في ذلك رسالة مضمنة إلى روسيا التي لم تتناولها التصريحات مباشرة نظراً للحوارات الاستراتيجية القائمة بين الدولتين والمتعلقة بانواع مهمة من الملفات إضافة إلى الملف السوري -، وبين التصريحات التي تصدر عن إيران بشكل رسمي وغير رسمي والتي تعتبر أن السياسات السعودية القائمة تدخل في الشؤون الداخلية لبعض الدول في المنطقة. وعودة إلى الاستراتيجيتين الأمريكية والروسية الحاليتين في المنطقة فمن الواضح أن الاستراتيجية الروسية المعلنة هي دعم نظام الأسد في سوريا والحفاظ على النظام السياسي السوري القائم، لكن الواقع ينبي عما هو أبعد من ذلك، فلربما سعت هذه الاستراتيجية إلى تحقيق هدف استراتيجي روسي أسمى يتجاوز دعم النظام السوري القائم، ويتعدى ذلك إلى البحث من جديد عن ثنائية قطبية تجد - من خلالها - روسيا نفسها أنها ندٌ للولايات المتحدة، بعكس استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية الحالية التي تسعى لإيجاد عالم يسوده تعدد القطبيات تحت مظلتها، في حين أن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تؤكد – بدون إصرار – على أن لا مستقبل سياسياً للأسد في العملية السياسية في سوريا، مع استمرارها بانتهاج استراتيجية القيادة من الخلف، الأمر الذي يثير قلق حلفائها في المنطقة، مما حدا بهم إلى السعي لإيجاد مخارج سياسية واستراتيجية لحماية مصالحهم الوطنية، وتحقيق أهدافهم الوطنية في توطيد أركان الأمن والاستقرار لبلدانهم.
والسؤال الذي يتبادر للذهن: هل ستعتمد الاستراتيجية الأمريكية المتبعة حالياً على طول النفس من أجل تهيئة مناخات سياسية وعسكرية لتفشيل الاستراتيجية الروسية في سوريا، وإسقاطها في فخ استراتيجي جديد يعيد للأذهان المستنقع الأفغاني؟ - وهذا التورط الروسي في سوريا - في التقدير - يقع خارج القدرات الاقتصادية الحالية لروسيا _، أم أنها ستدير ظهرها لحلفائها ليقلعوا أشواكهم بأيديهم، مكتفية بأن أمنها القومي في الحفظ والصون ؟. أما بالنسبة للاستراتيجية الروسية الجديدة في المنطقة، فمن المؤكد أنها ليست من أجل سواد عيني النظام السوري القائم، بل لأن سوريا هي آخر معاقل الوجود الاستراتيجي الروسي في منطقة الشرق الأوسط، ولا بد من المحافظة عليه خدمة لمصالحها الوطنية، وتمهيداً للعودة إلى ثنائية القطبية بشكل يختلف عن الاتحاد السوفييتي السابق، فهناك مؤشرات من أهمها ضم شبه جزيرة القرم، ودعم المعارضة في شرق أوكرانيا، والتدخل بالعمل العسكري في سوريا دون إذن من أحد، ودون مظلة من القانون الدولي، وهكذا، فالسعي جارٍ على الصعيدين السياسي والعسكري لتحقيق استراتيجيات جديدة في المنطقة وغيرها من مناطق العالم، مع الإشارة هنا إلى أنه لا يمكن لأحد أن يغض البصر عن العوائق الاقتصادية التي قد تحول دون الاستمرار الروسي في تحقيق ذلك، بالإضافة إلى أن الاستراتيجية العسكرية الروسية في سوريا تعتمد بشكل رئيس على القوة الجوية في حسم المواقف على الأرض، مع صعوبة ذلك، فقد أثبتت الاستراتيجيات والعمليات العسكرية عبر التاريخ أن القوة الجوية لن تحسم الوضع في الميدان، وإن ما يحسمها فعلاً هو القوة البرية التي تمسك بالأرض، مع أن السياسة الروسية صرّحت بأنها لن تلجأ إلى ذلك، ومن المعتقد أن هذا ليس في مصلحتها، مع ملاحظة أن الحرب إذا ابتدأت لا يمكن لأحد أن يتنبأ بموعد انتهائها. مع الإشارة أيضاً بأن الاستراتيجية العسكرية الروسية في سوريا قد تجاوزت حدود القانون الدولي للصراعات المسلحة، فهي تقصف بلا تمييز متجاوزة ما تتطلبه الضرورة العسكرية في القانون الدولي، ومتجاوزة حدود العقلانية والإنسانية في استخدام الأسلحة.
فخلال الأسابيع الماضية نسمع ونقرأ عن الآف القتلى وعشرات الألآف من الجرحى ومئات الألآف من اللاجئين والمشردين من الأطفال والنساء والشيوخ، والسؤال.. إلى أين سيأخذ هذا التدخل روسيا، فالتحليلات تقول بأن روسيا الآن أمام خيارين: إما أن تتخلى عن الحليف في لحظة ما في سبيل مصالحها الوطنية، وإما أن تتورط بشكل أعمق في العمليات العسكرية التي لم تصل إلى مستوى الحرب لغاية الآن، وهما أمران أحلاهما مرُ في الظروف الحالية. أما تأثير ذلك على المملكة الأردنية الهاشمية، فيعتمد على مدى اتباع الأردن سياسات متوازنة تمكنه من تفادي الإضرار بالمصالح الوطنية الأردنية، فإذا استمرت الأعمال العسكرية محصورة في شمال سوريا فإن المصالح الوطنية ستبقى في منأى عن خطورة التدخل الروسي، لكن إذا اتسع نطاق الأعمال العسكرية باتجاه الجنوب السوري، فإن الحسابات الاستراتيجية والسياسية والعسكرية ستكون مختلفة. والسؤال الكبير والأخير الآن..... هل العالم على شفير هاوية بحيث ينذر الوضع بانفجار حرب كونية جديدة تلزم الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بتغيير استراتيجياتها ؟، أم سيفضي الصراع القائم إلى ميزات سياسية تقود إلى حلول سياسية تصب في بوتقة الأمن والسلم الدوليين ؟..... مع أن الحلول السياسية ما تزال بعيدة المنال!