عندما يكون العربي بعيداً عن وطنه ويسمع بحدوث أمر جلل في بلاده يبدأ بضرب الأخماس بالأسداس، وقد يشعر بالخجل لأنه ليس مع ذويه في الضّراء واذا كان لا بد من مثال فهو الراحل هشام شرابي الذي سمع كما يقول في مذكراته اخبار الهزيمة في حزيران في ملعب الجامعة في احدى الولايات الأمريكية، ولم يستطع البقاء هناك فقرر أن يعود لكن الجمر سرعان ما انطفأ وتحول الى رماد، وعانى الرجل جراء استجابته لنداء الوطن الجريح، وانتهى الأمر بأن اغلق نافذة الطائرة بالقرب من مقعده واقسم أن لا يعود الى وطنه.
فهل هو الخيال الذي يعيد انتاج الواقع بعيداً عن شروطه وحقيقته؟ أم ان المثل العربي القائل تسمع بالمعيدي خير من أن تراه هو التعبير الأدق عن الطلاق البائن بين الواقع كما هو وبين ما ننسجه من خيالنا واسقاطاتنا النفسية عنه، ما حدث لهشام شرابي تكرر مع آخرين لكنهم ليسوا اكاديميين بارزين أو من الشريحة التي تكنب مذكراتها، لهذا فهم يكتفون برواية ما حدث لهم من صدمات لأصدقائهم!
وأبسط تحليل لهذه الظاهرة يتلخص في أن الواقع العربي لا يقبل التصديق اذا كان المرء بعيداً عنه وغير مستغرق فيه، لأن أية مقارنة بين ردود الفعل لدى العرب وبين ردود الأفعال لدى غيرهم لها نتائج غير سارّة، فلو حدث في أي بلد في العالم واحد بالألف مما يحدث في الوطن العربي لقامت الدنيا ولم تقعد، لكن ما يحدث في بلادنا من ذبح للبشر كالأغنام ومن تدمير لاطلال الحضارات ومن استباحة للمقدسات وانتهاك لحقوق البشر يبدو عاديا ومألوفا لفرط التكرار والتأقلم.
واذكر أن ناقداً بريطانيا علق ذات يوم على قصيدة لبدر السّياب بعنوان المومس العمياء قائلاً : ألا يكفي أن هذه المرأة مومس فقط أو عجوز فقط أو عمياء فقط كي تثير الأسى في وجدان المتلقي العربي! ولماذا اضطر الشاعر الى دمج كل هذه المآسي في قصيدة واحدة! ولو رأى هذا الناقد أحوالنا الآن لأدرك السّر الذي بحث عنه. لأن مئة قتيل في العراق وسبعين في فلسطين وألفا في سوريا ومثلهم في ليبيا لا يكفي دمهم لكتابة سطر في قصيدة عربية الآن، فمن لا تضحكهم النكتة ان لم تكن فاحشة لن تبكيهم المأساة حتى لو كانت إبادة شعب!
الدستور