أخلاقيات الاشتباك مع رجال الأمن في التحركات الشعبية
احمد ابوخليل
19-10-2015 03:15 PM
فيما يلي أفكار أولية، وهي وجهة نظر، ليست ناجزة أو نهائية، حول أصول أو أخلاقيات الاشتباك بين الجمهور وأجهزة الأمن، وهو موضوع حساس دون شك، ولكن من الضروري في تقديري على الأٌقل نقاشه في ضوء مستجدات العلاقة بين السلطة والجمهور، وفي ضوء التغيرات التي حصلت على دور القوى والأحزاب والسلطات أيضاً.
في بلدنا، مر الموضوع بمراحل، ومن المرجح أن تقاليد النزول إلى الشارع والتواجد وجهاً لوجه مع أجهزة الأمن، التي تشكلت في أزمان سابقة، منذ منتصف القرن السابق، تحتاج لنقاش متجدد. ذلك أن مثل هذه الظاهرة ليست ثابتة مطلقة، وهي وليدة ظروف ومحكومة بمعطيات تختلف من زمن لآخر.
في بلادنا هناك ثلاثة أصناف من القضايا التي تستدعي التحركات الشعبية في الشارع والتي تترافق مع احتمال الاشتباك مع رجال الأمن وهي: القضايا المطلبية الخاصة بفئة أو لفئات محددة أو مفتوحة، وثانياً القضايا السياسية الداخلية، وأخيراً القضايا التي تتعلق بالتحركات ذات الصلة بالصراع القومي أو "القضايا الخارجية"، كالاحتجاج على العدو والتضامن مع النضال الفلسطيني، أو ما يتعلق بالتضامن مع شعوب أخرى كما هي الحال مع العراق أو سورية أو لبنان.. وغيرها. (تذكرون في السابق حالات التضامن مع الجزائر أو مصر مثلاً).
حول هذا الصنف الأخير تدور هذه الملاحظات، ذلك أن أخلاقيات أو أصول الاشتباك تختلف في هذا الصنف عنها في الصنفين الآخرين.
طوال عقود سابقة، كان المنطق الذي يحكم موقف القوى السياسية عندما تنزل إلى الشارع يتحدد بالآتي:
يكون لدى القوى السياسية برنامج شامل، تُصنّف فيه السلطة في خانة الخصم الداخلي (أو العدو الطبقي أو السياسي)، المتحالف عادة مع العدو القومي. ويجري توظيف كل حالات الاصطدام به وبأجهزة الأمن التي تمثله، ضمن هذا المنظور. وكانت القوى السياسية تقيس موقفها في كل حالة كالتالي: ما الذي يحمل فائدة كفاحية أكثر؛ المواجهة أم عدمها؟
كانت القوى السياسية تنظر إلى المواجهات كدروس نضالية أولية وكتجارب لأعضاء الحركات والأحزاب وللجمهور عموماً، على المواجهات، وأحياناً كانت القوى السياسية تخطط لحجم مدروس من المواجهة، وذلك على سبيل دفع السلطة لكي تظهر بصورتها الحقيقية (المعادية للشعب من زاوية نظر القوة السياسية المعينة)... وهذا كله يجري على سبيل التهيئة والتجهيز والاستعداد للمعركة الكبرى، التي ستنتهي بانتصار البرنامج البديل، وهزيمة برنامج السلطة، وهو ما يعني تمكين أصحاب البرنامج البديل من تنفيذ مواقفهم ورؤاهم فيما يتصل بالتصدي للعدو، أو بالتضامن مع الأشقاء... إلخ.
أما عن نتيجة المواجهات بين الجمهور والأجهزة، ففي غالب الحالات، فإن القيمة الأخلاقية كانت دوماً إلى جانب "الجماهير الشعبية" التي تقدم التضحيات في مواجهة بطش السلطة، وكان المتظاهر أو المحتج هو البطل المنتصر أخلاقياً بمقابل رجل الأمن الذي يمثل السلطة القمعية، وإذا حصل واعتقل متظاهر، فهو ذاهب للمواجهة الشجاعة في غياهب السجون، مكبلاً بالأصفاد، ويتلقى التعذيب على يد جلاوزة السلطة.. وباختصار كانت المعركة الأخلاقية محسومة لصالح الجمهور.
في تقديري، أن المشهد جرى عليه تبدل لا بد من أخذه بالاعتبار!
وخوفاً من التباس الفهم، أستدرك هنا لأشير، إلى أن التبدل المعني هنا، يخص المواجهات التي تُدار أو تُحمى أو تُغطى من قبل قوى سياسية منظمة، ذلك أنه قد تحصل أحياناً تحركات عفوية حقيقية بمبادرات أهلية شعبية خالصة، وفي هذه الحالات فإن التبدل ليس كبيراً وربما ليس ملحوظاً، حيث يواصل الجمهور، إذا حصل اشتباك، حيازته للقيمة الأخلاقية إلى جانبه، لأن المسؤولية تكون على الأجهزة الأمنية المنظمة.
أما ما يتعلق بالتحركات المدارة أو المغطاة من قوى سياسية، فمن المرجح أن الأمر يحتاج لبعض النقاش:
فمنذ سنوات، لم يعد لدى القوى السياسية المصنفة تحت مسميات: (اليسار والوطني والقومي والديمقراطي) أي برنامج واضح وواثق وجدير بأن تكون المواجهات جزءاً منه أو خطوات على طريق تحقيقه، ولهذا لا معنى للمواجهة، إلا من زاوية تنظيمية خاصة.
الطرف الوحيد الذي لديه برنامج هو الإخوان المسلمون، ولكن هذا البرنامج للأسف ظهر في الممارسة كبرنامج لا وطني بل ومفرط في لا وطنيتيه وارتباطاته غير الوطنية، ولهذا فإن المواجهات التي يقودها تفتقر إلى القيمة الأخلاقية بالصورة التي كانت عليها الأمور في السابق. إن أجهزة الأمن تنافس أخلاقياً حتى وهي تتصدى وتلاحق، وليس بالضرورة أن من يجري اعتقاله أكثر وطنية أو أكثر تفوقاً أخلاقياً، من رجل الأمن الذي يعتقله.
قد يكون هذا الكلام قاسياً، وخاصة على مجموعة من الشباب الشجعان الذي يجدون انفسهم وبحماس وقناعة واندفاع على رأس المواجهات، وبعضهم أثبت لم يعد يهاب الاعتقال والمواجهة العنيفة، وهي صفات ممتازة، ولا يكون الشاب المسيّس جديراً بهذه التسمية بدونها، ولكن ما يحزن هو التوظيف السياسي لهذه الشجاعة، الذي يجري احياناً بشكل فوري، بما يستهلك، بالنحصلة، طاقة هؤلاء الشباب، ويتركهم حيارى حول ما الذي يجري! في بعض الحالات رأيت بعض الشباب الشجعان يُنزّلون رغماً عنهم عن منصة الحديث من قبل منظمي التحرك، أو يجري استبدالهم بشكل غير مفهوم، خدمة لتكتيك معين، ومن المؤسف أنه خلال السنوات الأربع الماضية جرى "استهلاك" عشرات الشباب الشجعان من مختلف الفرق السياسية، أم ممن كانوا يطمحون لتطوير انتماءاتهم أو تعميقها.
اسمحوا لي أن أقترب أكثر مما يجري أو قد يجري حالياً. أنا بالطبع أشعر بالخجل الشديد عندما أرى حجم الاحتياطات الأمنية لحماية سفارة العدو الصهيوني، وأنظر باحترام لأي محاولة لإهانة هذا الوكر المعادي، وأرى أنه من الضروري أن يسمع "ساكنوها" صوت الشعب المعادي لهم، وأن يسمع أنصار العلاقة مع العدو الصوت ذاته، ولكن إلقاء حجر على رجل أمن على مسافة عدة كيلومترات من السفارة، لا ينطوي على فوائد "كفاحية".
الأمر ذاته، على سبيل مثال آخر، ينطبق على حالات اندفاع شباب من مخيم البقعة لإغلاق الشارع العام وإشعال الحرائق فيه، والدخول في مواجهة مع الأمن. إن مثل هذه المواجهة لا تحوز إلى جانبها القيمة الأخلاقية، هنا فإن تصدي رجل الأمن وفرضه فتح الشارع، هو الذي يحوز تلك القيمة.
إن مشهد شباب ملثمين في شوارع ميدنة اردنية، مهما كان لون الحطة أو العلم الذي يستخدم كلثام، أو مشهد آخرين يجهزون الحجارة، أو مجمل محاولات نقل شكل وهيئة المواجهات مع العدو في الأرض المحتلة، أمر لم يعد له أي معنى، ذلك أن اختلاق التشنج لا يعد يصنف ضمن العمل النضالي.
الكلام يمكن ان يطول، ولكني أكتفي بهذا على سبيل النقاش بصوت عالٍ كما يقال.. والله من وراء القصد.