في اليوم الأول الذي زرت فيه «الرأي» بعد انتسابي رسميا للمؤسسة ، جلست بضيافة زملاء للتو أتعرّف على أسمائهم ومسمياتهم الوظيفية ، كنت تائهاً مشوّشاً «مثل العنزة اللي بيزمر عليها بكم».. أسهب في المجاملات والكلام في العموميات فأنا شاب حديث التجربة في الصحافة نزلت ضيفاً على كوادر طاعنة في الوظيفة والإدارة والتحرير ..
وأثناء تبرع أحد الزملاء بتعداد مزايا الجريدة وسلبياتها، والاستماع بإنصات الى بعض من يريدون مصلحتي في الجلسة حيث بدأوا يعطونني قائمة بأسماء ومسميات: «دير بالك من..» و"خليك قريب من».. «أوعى تأمن لــ..»...» خلي علاقتك مع...» الخ ...وقف في الباب رجل يرتدي شماغاً مهدّباً ، ويتأبط صحفاً كثيرة ومغلفات صفراء أشار إلي بالحضور إليه منفرداً، استأذنت من الزملاء الناصحين ووقفت معه خارج الغرفة ، قال لي: أنا خالد محادين.. انس كل ما سمعته سأعطيك ملخّص الحال في الصحيفة ... هنا ستكتب ما تشاء وهم سينشرون ما يشاؤون... اعتبرها فترة تجريبية أن ارتحت استمر، وان لم ترتح .. انا سأساعدك في الكتابة بصحف أخرى... وعندما سألته عن تاريخ انضمامه للرأي اكتشفت انه يعود الى ما قبل مجيئي للدنيا بعامين او ثلاثة.. أدركت عندها أنه سيصيبني داء «الحب» الذي أصاب ذلك الختيار مع الورق والحبر وصوت الماكنات التي تنشد عناوين الأخبار من تحت درج المؤسسة..
عندما ضاقت به زاوية «7 ايام» التي كان يكتب بها بسبب معارضته لكثير من القضايا والسياسة الداخلية، وضاقت بي زاويتي «سواليف» في الملحق الثالث هربنا سوية الى الفضاء الاليكتروني وصرنا ننشر كل ما يطيب لنا في السياسة بعيداً عن احراج الصحيفة وسياستها...
أسس بعدها خالد محادين موقعاً اليكترونيا أسماه «الخندق».. كان خندقاً بكل معنى الكلمة ، كان ممتداً على حدود الحرية ، يطل بفوهة قلمه تجاه كل الفاسدين وتجار الوطنية ، كان الخندق ضيقاً لا يتسع الا له فهو رئيس التحرير وهو الكاتب وهو المندوب وهو الذي يجيز التعليقات.. لكن ما لبث أن تعب وأتعبته الوحدة والمناوبة المتواصلة..
في السنوات الأخيرة لم يعد يعني أبو سنان... عناوين الصحف بقدر ما صار يعنيه عناوين الأطباء ... ولم يعد يقرأ كثيرا من التحليل السياسي .. وبدأ يركز على قراءة تحليل الدم... وودع تفاصيل الكلمة واستقبل تفاصيل جرعات العلاج.. لقد انفصل عن حبيبته قسراً وتفرغ لمناكفة المرض....
رحل خالد محادين ، الكاتب الذي كان يمشط الجريدة كمن يمشط شعر طفله البكر.. رحل تاركاً وراءه رائحة الحبر، ووشاية الزملاء ، وحديث الممرات ، وأصوات المكائن الساهرة ليلاً، ودخانه الذي يتصاعد من غرفته كغيم الفكرة في كانون ...
**
كم هو صعب على الكاتب الذي اعتاد ان يلاقي الصحيفة بلهفة العشاق ..وان يتابع التحقيقات والزوايا.. ويتلمس حدود عموده اليومي ..ان يصبح مجرد ذكرى.. كم هو صعب ان تصبح الزاوية الفارغة من قلم صاحبها ضريحاً ورقياً بشاهدين... كم صعب ان يحضر الجميع ويغيب هو..
الرأي