عندما وقعت الإمبراطورية العثمانية في فخ يهود بحر الخزر- الذين إستضافتهم وأكرمتهم ومنحتهم الأمن والأمان، بعد أن هربوا بجلودهم من نار ملك إسبانيا وما عرف بمحاكم التفتيش، قررت الحركة الصهيونية مصيرها وأوقعتها في مشاكل لا حصر لها، إنتهت بإشعال حرب عالمية أولى بطبيعة الحال، وجدت الامبراطورية نفسها في موقف لا يحسد عليه، خاصة وان حلفاء الصهيونية أجهزوا على الإمبراطورية وتورثوها - أطلق عليها لقب "الرجل المريض " وهكذا إنتظروا حتى وفاته وربما أخذ ذلك وقتا. كان ذلك عقابا لأن السلطان عبد الحميد الثاني، رحمه الله، رفض السماح ليهود بالتسلل إلى فلسطين كما فعل البعض لاحقا، وقد طرد ثيودور هيرتزل مؤسس الصهيوينة من مكتبه، رغم ان الأخير قدم عروضا مغريه للسلطان عبد الحميد، منها تأمين النصر له على الحلفاء، وتعبئة خزائن الإمبراطورية الخاوية بالذهب، ومع ذلك قال السلطان عبد الحميد مخاطبا هيرتزل :" عليك أن تعلم أن القدس يعني فلسطين ملك للمسلمين وليس للسلطان عبد الحميد "وقبل خروجه من الباب إلتفت هيرتزل إلى السلطان وقال له :سأعود إليك بعد عام وستندم لأنك طردتني! وكما هو معروف فإن هيرتزل وبجهود المخابرات البريطانية حصل لاحقا على صك يخول يهود بالإقامة في القدس وليس الصلاة فيها فقط، وبالتالي فتحت لهم أبواب فلسطين، وهكذا بدأت الهجرة اليهودية بعد ذلك، وإنهارت الإمبراطوية العثمانية، وإنكفأت على نفسها في تركيا دولة عادية، بعد ان كانت إمبراطورية إسلامية تقوم بالفتوحات وتوسع الحدود.
نحن العرب هذه الأيام نستحق أن يطلق علينا لقب "الرجل الذي يحتضر "،لأن المرض دب في أوصالنا منذ بدايات القرن المنصرم، عندما تشظينا حارات وأزقة، وعدنا طواعية لحكم الممالك والطوائف، وأصبحنا ندفع للفرنجة كي يقوموا بمقاولات قتل أو إحتلال أو تدمير لبعضنا، حيث إستفحلت الخلافات العربية –العربية ووصلنا إلى ما نحن عليه وفيه، وبأيدينا وبأموالنا. وهذا يعني أن ملك الموت لن يمهلنا كما أمهل الإمبراطورية العثمانية، وها هو يحوم فوقنا وبيننا وقد بدأ مهمته، ونشعر أن الروح تحاول الخروج من الجسد، وحقت علينا كلمة الإحتضار.
قلنا آنفا أن الإمبراطورية العثمانية دفعت ثمن رفض تنازلها عن القدس وفلسطين ليهود بحر الخزر، لكننا نحن العرب ندفع ثمن صمتنا وتفريطنا بالقدس وفلسطين، وتحالفنا مع مستدمرة إسرائيل، ووضع كل مقدراتنا تحت إمرتها ..ألم نجنح للسلم معها بطريقة إنسحاقية وقدمنا لها مبادرة عربية للسلام تقضي بتمليكها فلسطين وتطويع العالمين العربي والإسلامي للتصالح والتطبيع معها؟ والمخزي أن شارون رفض هذه المبادرة، رغم أن قمة بيروت العربية عام 2002 أقرتها، وكان الرئيس اللبناني المقاوم فخامة الرئيس إميل لحود قد رفضها وقامر بعلاقات لبنان مع أصحابها، ولكن حجته كانت سليمة جدا وهي أن هذه المبادرة تشطب حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وأنه كرئيس للبنان الذي يستضيف بلده لاجئين فلسطينيين لا يوافق على هكذا مقامرة، ومع ذلك فإن شارون رد على المبادرة وأصحابها، بإعادة إحتلال العديد من المدن الفلسطينية وحاصر حتى المقاطعة في رام الله والتي إتخذها الزعيم الفلسطيني الراحل بالسم مقرا له، وإقتحمها وإنتهى عرفات بالسم .
لا أستثني أحدا فمن كانوا يسمون التقدميين، أسهموا بإذلالنا قبل الرجعيين، لأن التقدميين والثوريين والقومجيين أشبعونا جعجعة فارغة ولم نر طحنا، ولهذا خسرنا كل معاركنا لأننا أصلا لم ندخل مع مستدمرة إسرائيل معركة بالمعنى العسكري، بل كنا نتفق معها على مسرحية إخراجها سيئ، ونسلمها المساحات الشاسعة، ونقول بعد ذلك أننا إنتصرنا، وآه لو نفتح ملف الأغاني والأناشيد القومية، التي كنا نجترحها بعد الهزائم، في محاولة لتعويض النقص المركب الذي نعاني منه، لأننا عودنا أنفسنا وشعوبنا على الهزيمة، وحرمنا أنفسنا من التمتع بالنصر ونحن قادرين على تحقيقه لو كان أمرنا بيدنا . ها هي دولنا الوطنية المنبثقة من رحم سايكس – بيكو، تلفظ أنفاسها وتتحول إلى كانتونات إثنية عرقية طائفية مربوطة في وتد بتل أبيب، وسوف ينتقل المحراث الداعشي وربما بتسمية أخرى "خراسان"، للعبث في العالم الإسلامي، لأنه أيضا صمت وأسهم في ضياع فلسطين والقدس والأقصى، وإن غدا لناظره لقريب.