ما لم يقله طاهر المصري بصراحة .. !!
حسين الرواشدة
15-10-2015 03:58 AM
إذا كانت “صرخات” الانتحار التي أطلقها شباب من أبنائنا في عمر الورود لم تدق بيننا ناقوس الخطر، ولم تحرك ضمائرنا لكي نفهم –على الأقل - ما حدث في مجتمعاتنا من تحولات في منظومته القيمية، فكيف يمكن لمقال او دراسة علمية ان تفعل هذا؟
بقدر ما استوقفني المقال الذي كتبه الاستاذ طاهر المصري قبل يومين حول “الاصابات” التي طرأت على قيم مجتمعنا، ومدى خطورتها على مستقبلنا،بقدر ما شعرت بالخيبة والصدمة والخجل من “صمتنا” المريب على واقعنا الاجتماعي، وما يحصل فيه من تغيرات عميقة، لدرجة ان احدنا اصبح يحس “بالغربة” ويبحث عن العزلة، وسط محيط يكاد لا يعرفه ولا يألف ما يجري فيه.
لا يوجد لدي الكثير مما اضيفه على “التشخيص” الذي قدمه دولة طاهر المصري، ولكن لدي سؤالان اثنان، احدهما: من هو المسؤول عن ذلك، والثاني كيف ومن أين نبدأ بإصلاح ماحدث؟
اجابة السؤال الاول بتقديري يمكن ان الخصها في كلمة واحدة وهي “السياسة” ذلك ان ما حدث في مجالنا الاجتماعي من اصابات وانهيارات مرتبط بشكل او بآخر بمناخات ومقررات “سياسية” افرزت من مجتمعنا اسوأ ما فيه، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي حيث الفقر والبطالة والتهميش، ولا حتى الجوع الذي يكاد ان يشكل “طبقة” جديدة في مجتمعنا، وإنما على الصعيد الاخلاقي ايضاً، لدرجة ان ما نعانيه اليوم هو مشكلة “اخلاقية” بامتياز، تحالف – بقصد او بدون تعمد- السياسي مع الديني في انتاجها والترويج لها، حتى تعمقت في داخلنا واصبحت تشكل شخصيتنا، والاّ كيف يمكن ان نفهم تراجع القيم التي كانت مصدر اعتزاز ابائنا واجدادنا ، وتحولها الى النقيض تماماً، خذ مثلا قيمة الفقر التي كانت تدفع الى الابداع والعصامية والاعتماد على الذات والافتخار بها، ثم تحولت الى قيمة طاردة وسلبية لا تنتج سوى العنف والتطرف والتوسل واحتقار الذات، هذا التحول –بالطبع- يقف وراءه عاملان سياسي وديني ساهم خطابهما في صياغة المجتمع على اساس انه “سوق” للاستهلاك في معزل عن القيم، لا تقل لي ان الطرفين غالباً ما يحضان على الالتزام بالقيم،فالمقصود هنا ان افعالهما وممارساتها ارتكزت على الاستثمار في المجتمع بطريقة مغايرة تماماً لمنطق “القيمة”: السياسي مثلا اعتمد “الجباية” وتهميش كل ما يتعلق بالامن الاجتماعي في معظم سياساته ومقرراته، والديني ايضا اذ استخدم الدين كقانون للزجر والتخويف والترغيب، فيما وظيفة الدين الاساسية هي “الهداية” المرتبطة بالاستثمار في الانسان كقيمة لا كمستقبل للأوامر فقط .
سأتجاوز عن كثير من التفاصيل، لكن ما ذكرته سلفاً ولّد في مجتمعنا ثقافة جديدة، تعاملت مع المتغييرات الداخلية والخارجية وضغوطاتها بمنطق “السوق” تماماً، وبالتالي لم يعد لقيم مثل الاستقامة والنظافة والنزاهة والقناعة والوئام الاجتماعي والالتزام والاتقان والاعتماد على الذات والتضحية من اجل الجماعة...الخ، اقل اعتبار في حياتنا بل اصبحنا نبحث عن قيم بديلة لها، لكي تساعدنا في تحقيق رغباتنا او سدّ حاجاتنا او حتى الانسجام مع محيطنا العام.
اتحدث هنا بصورة عامّة، ولا اعمم، فلدينا نماذج اخرى من القيم السامية والصامدة التي يعبر عنها فئات من مجتمعنا بصورة او بأخرى، لكن حين نطالع صورة مجتمعنا في المرآة الاجتماعية نجد ان معظم هذه القيم التي تأسست عليها الدولة والمجتمع، تراجعت او غابت احياناً، كما نجد ان “استعادتها من جديد ، في ظل العولمة وما يحصل في الاقليم من صراعات، وما يتعرض له بلدنا من ضغوطات اقتصادية، مسألة صعبة، الأمر الذي يستدعي التفكير جدياً في الاجابة على سؤال العمل؟ وهو كما قلت يرتبط بخطابنا السياسي والديني وبالفاعلين فيهما، وهذا يحتاج الى نقاش طويل جاء وقته ولا بدّ ان يحضر اصحابه ايضا.
صحيح ان الاستاذ المصري وضع يده على “الجرح” وتعمق في تشخيص اعراض المشكلة واسبابها ومرّ سريعاً على وصفات “العلاج” الممكنة، لكنه – وهو معذور في ذلك – لم يحدد لنا بصراحة من اي الصيدليات يمكن ان تصرف هذه الوصفة، ولا من هم المعنيون بكتابتها ايضاً.
الدستور