كلّما لاحتْ غيمةٌ صغيرةٌ في تشرينَ طبختْ أُمِّي عَدساً. كنتُ أنظرُ إلى السَّمَاءِ، قبلَ المدرسةِ صباحاً، وأعرفُ أنَّ الغداءَ عَدسٌ، وأنّ الخيارات الأخرى مستحيلةٌ. فلا تُخيِّبُ سيّدةُ الْبَيْتِ ظنِّي، ولا أسألُ عن الذرائع. فأنا أحفظها، مِثْلَ نشيد الطابور المدرسيّ: خافقٌ بالمعالي والمُنى. عربيُّ الظِلالِ والسَّنا.
"العَدسُ مفيدٌ للبرد". تؤكِّدُ أُمِّي ذلك. لعلَّ اللحمَ والدجاجَ ضارّان جداً. إنَّها فطنةُ الأطفالِ في زمني. كنّا نعرفُ البئرَ وماءها وغطاءها، ونشربُ ما تيسَّر من الدلو. نشربُ الرِّضا، ونغفو تحتَ لحافِ الصُوف، الذي نجَّدتهُ الأمهاتُ، بعد حصادِ العَدس، وتهيأنَ لحراستنا من حكَّة القدمين في الشتاء.
حنكةُ التدبيرِ، أو "فنُّ الممكن" السياسةُ الحكيمةُ لأمّي، في إدارةِ دولتها. ولا بُدَّ من إعلامٍ دعائيٍّ، يرفعُ من شأنِ العَدس في مقاومةِ البرد، العدوّ الخارجيّ الغاشم، وعلى الشعبِ أنْ يُقدِّرَ ظروفَ القيادة، ويلتفَّ حولها، ويُسارعَ إلى غَرْفِ العَدسِ، كما يشاء. كلُّ أسباب الرفاهِ متاحةٌ: لا تتذمَّر. إملأْ صحنكَ. خُذْ خبزاً. أدلقْ زيتَ زيتونٍ، واحرصْ على أنْ تسمعَ القيادةُ صوتَ البصَلِ تحتَ أسنانكَ، واشكرَ اللهَ على هذه النعمة.
أحنُّ إلى غيماتِ تشرين، وإلى عَدسِ أمي، يا محمود درويش. فقد حصدتهُ، ودَرَسْتهُ، وجلستُ إلى جوارِ جدَّتي وهي تجرشهُ على الرّحى. رأيتهُ منقوعاً، ومطبوخاً، وهَشَمتُ فيه الخبزَ. أحببتهُ مع "الرشوف" باللبنِ والقمح، وعشقته وهو يرسمُ فسيفساء القرى في صحن "المجدَّرة". أكلتهُ أخضرَ، وخدعتُ به الجوعَ، حتى يُقال: "كف عَدس".. تضامناً مع العاشقِ الشاميِّ وفتاتهِ، ضدّ أبيها التاجر، وضدّ جرائمِ الشرف.
أشعرُ بالبرد. ربَّما نَحْنُ في كانون الثاني. السماءُ كثيفةُ الغيوم. الحنينُ ابن الشتاءِ الوحيد واليتيم. سأطبخُ لعائلتي عدَساً على عشاءِ الليلة. أسكبُ في صحونهم من هذا الأخضر الزيتيّ المُعشَّقِ بصُفرة الكمّونِ والكُركُم. ليكنْ إلى جوارِ الخبز كثيرٌ من البصل الأخضر والفِجْل والليمون. لَنْ أقبلَ اعتراضاً من الفتيان، حينَ يَقُولُ أحدهم: هذه "شوربة" فأين العَشاء. سأشعرُ بأساءةٍ عميقة، وأردّ كديكتاتورٍ عربيّ: هذا هو العشاءُ بكاملِ حضورهِ أيها الفتى. كُلْ بالصحَّةِ والهناء. ولتكن لك كَتفانِ عريضتان من حقولِ الأَرْضِ، فأنتَ لا تعرفُ الذين حصدوه، واللواتي جَرشْنَهُ، ولا تعرفُ البردَ، والطريقَ الثلجيّةَ إلى المدرسة.
كُلْ، واشكر الحياةَ، وحذارَ أن ترى هذه النعمةَ اللذيذةَ مجردَ "شوربة"..