الملك يحدد مضامين التجديد
بلال حسن التل
30-09-2015 07:19 PM
كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن تجديد الخطاب الديني لمواكبة العصر والإجابة على أسئلته. وعقدت حول مفهوم التجديد الكثير من المؤتمرات والندوات، وصدرت العديد من المؤلفات حول هذه القضية المُلحة في حاضر أمتنا على وجه الخصوص، والبشرية على وجه العموم، وهو الإلحاح الذي يضاعف من قيمة كلمة جلالة الملك عبد الله الثاني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي الكلمة التي نستطيع القول إن جلالته حدد من خلالها مضامين واضحة لمعالم التجديد التي يحتاجه الخطاب الديني بكل تنوعاته الإسلامية والمسيحية واليهودية، فقد دعا جلالته الجميع للعودة إلى الأصول، إلى الجوهر والروح المشتركة بين الأديان وبين المعتقدات، وجلالته بهذه الدعوة يُذكرنا بكلية واضحة وراسخة من كليات العقيدة الإسلامية وحقيقة من حقائقها الكبرى، هي حقيقة أن الدين واحد وإن تعددت شرائعه، وأن التسليم لله هو أساس الدين كما جاء به آدم أول الأنبياء، ثم أبو الأنبياء ابراهيم وأبناؤه موسى وعيسى ومحمد، وهذه الوحدة في جوهر الدين هي التي ترتكز عليها القيم والجوامع المشتركة بين أتباع هذه الديانات، وهي أكثر بكثير مما يفرق بينهم، خاصة وأن أهم ما دعت إليه الأديان هو المحبة والسلام والعدل والتراحم، وهي قيم تحدث عنها القرآن الكريم بالكثير من الآيات القرآنية واختصرتها الآية التي تلاها جلالة الملك من على منبر الأمم المتحدة وهي قوله تعالى (ورحمتي وسعت كل شيء).
وقد كانت الترجمة العملية لهذه الرحمة الإلهية أنها وسعت كل شيء بما في ذلك الشجر والحجر، حتى أن إمرأة دخلت النار بقطة لأنها لم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض كما قال رسولنا محمد عليه السلام، فأين من هذه الرحمة ما يفعله خوارج هذا العصر من فتك بالأبرياء رجالاً ونساءً وأطفالاً. وعند مصطلح الخوارج الذي يحرص جلالته على استخدامه كلما تحدث عن التكفيريين يجب أن نتوقف طويلاً لاستيعاب الرسالة التي يود جلالته إيصالها للناس وخلاصتها براءة الإسلام والمسلمين من كل هذا الذي يفعله التكفيريون باسم الإسلام.
يقودنا حديث جلالة الملك عن الرحمة إلى المعنى المهم من معاني تجديد الخطاب الديني كما ورد في كلمة جلالته، فأحد أهم الاختلالات التي يعاني منها الخطاب الديني المعاصر هي الفجوة الضخمة بين أقوالنا وأفعالنا، ففي الوقت الذي نكثر فيه من الحديث عن الرحمة تملأ أعمالنا العالم بالقسوة والشرور والحروب، وفي الوقت الذي تكثر فيه أحاديثنا عن القناعة والتعاون فإن جل أفعالنا تذهب باتجاه الجشع والبغضاء ورفض الآخر، وهي حالة يمقتها الله عز وجل ويلعنها، ويكفي أن نذكر بقوله تعالى (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وفي هذا الإطار نفهم قول رسولنا محمد عليه السلام (الدين المعاملة)، فالأصل في التدين هو ما تفعله لا ما تقوله، بل أن هؤلاء الذين يقولون ما لا يفعلون هم الذين صنفهم الإسلام كمنافقين هم أشد خطراً من المشركين، وهم ملعونون في القرآن والسنة.
وتأكيداً لأهمية الفعل وترجيحه على القول كانت نسبة الحديث في القرآن الكريم عن العبادات نسبة ضئيلة قياساً إلى الآيات التي تتحدث عن التعامل والمعاملات، وكذلك هو الحال في الأحاديث النبوية الشريفة. وهذه حقيقة كبرى من حقائق الإسلام ذكرنا بها جلالة الملك من على منبر الأمم المتحدة، وهو يطالب البشرية بتجديد خطابها لقطع الطريق على أولئك الذين يستغلون الاختلافات الدينية لتقويض أسس التعاون بين البشر، متناسين أن هذه الاختلافات هي أمر طبيعي وسنة من سنن الله في خلقه الذي ارتضى له التنوع وهو القائل عز وجل (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة).
وعند الحديث عن التنوع كسنة من سنن الله نحب أن نتوقف عند دعوة جلالة الملك من على منبر الأمم المتحدة إلى كل (قادة الدول والأديان والمجتمعات جميعاً أن اتخذوا موقفاً واضحاً وعلنياً ضد التطرف مهما كان نوعه أو شكله وهذا يشمل احترام جميع أماكن العبادة من مسجد أو كنيسة أو كنيس) فجلالته بهذه الدعوة يجدد قيمة كبرى من قيم الإسلام المؤمنة بوحدة الدين وتعدد الشرائع، والتي يعبد أتباع كل منها الخالق على طريقته، ذلك كانت أول وصايا الرسول عليه السلام وخلفائه من بعده حماية دور العبادة وصوامعها، وترك أهلها يعبدون الله دون أن يزعجهم الجند، الذين إنما خرجوا لإزالة العوائق بين الناس وبين عبادة الله، دون أن يُكرِهوا أحداً على الدخول في الإسلام كما جاء به محمد عليه السلام، لذلك ظل المسيحي على مسيحيته واليهودي على يهوديته حيثما رفرفت راية الإسلام الحقيقي، لأنها راية السماحة والاعتدال والقبول بالآخر، وهي قيمة لابد من أن يسعى المسلمون إلى استعادتها في حياتهم بعد أن يستعيدوها في قلوبهم وعقولهم فمعركتنا في هذه المرحلة تدور رحاها في ميادين الفكر ومبتغاها كسب العقول والقلوب كما قال جلالته صادقاً.
"الراي"
Bilal.tall@yahoo.com