هل يدشن الروس مرحلة جديدة في المنطقة والعالم؟!
د.زهير أبو فارس
29-09-2015 12:39 PM
جدل التقييمات المتباينة حول أهداف ومسار ومآل السياسات الأمريكية بكافة أشكالها وأدواتها المعروفة في الشرق الأوسط حُسِمَ مؤخراً لصالح التخبط وضبابية الرؤية. والأسباب الحقيقية لهذه النتيجة المتوقعة تكمن في عجز القائمين على هذه السياسات في فهم أحوال المنطقة وثقافات شعوبها، واعتمادهم البيانات والاحصاءات المخزنة في أجهزة الكمبيوتر، وفق منهاج علم النفس الاجتماعي الذي يعتبر في صميم لعبتهم المفضلة في ادارة عمليات الصراع وبسط النفوذ والهيمنة في العالم، على الرغم من الفشل المتراكم الذي منيت به هذه السياسات، بدءً من فيتنام وكوبا، مروراً بأفغانستان والعراق، وأخيراً ليبيا وسوريا وايران، والحبل على الجرار.
ولو أسقطنا ما ذهبنا اليه على منطقتنا العربية مع بعض التفصيل، لوجدنا أن الصورة الكاملة لهذه السياسة تمثلّت في افتعال ما اسمتها بـ "فوضى خلاقة"، من خلال "ربيع عربي دموي"، حوّل المنطقة برمتها الى جحيم التهمت نيرانه الأخضر واليابس، وأتت على هياكل وبنى دول بأكملها، لتكون النتيجة لا شيء غير الدمار والدماء والتشرد والمعاناة الانسانية، والتي ستبقى لعقود قدر أجيال قادمة. كل ذلك بهدف التخلص من "الأنظمة الديكتاتورية"، وباسم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، ومن أجلها (!).
لكن المفارقة العجيبة تكمن في أن الممارسة الأمريكية لهذه السياسات تنطلق دائماً من مبدأ حقها، الذي تنفرد فيه دون غيرها، في اتخاذ ما تراه مناسباً لمصالحها، ومنسجماً معها، بغض النظر عن نتائجها وانعكاساتها المأساوية على دول المنطقة وشعوبها. والأهم من ذلك أن هذه السياسة منزوعة الحكمة، والفاقدة للأفق وبعد النظر، يستمر القائمون عليها باستخدامها وفرضها بكافة الوسائل، بما فيها القوة العسكرية، وخلق الصراعات، وتوظيف الخلافات والتناقضات (وما أكثرها!)، لتحقيق الأهداف إياها، وفي غياب أية اعتبارات للقوانين ونظام العلاقات الدولية.
واذا انتقلنا من التعميم الى التحديد من خلال بعض الأمثلة الصارخة.. نقول، بأن السياسة الأمريكية التي استفردت بالقرار حول العراق وليبيا، ودمرّت بنى وهياكل ومؤسسات الدولة فيها، تستمر في تطبيق نفس السيناريو ايّاه في سوريا. وكأنها لم تقبل بأقل من 350 ألف قتيل، وتشريد أكثر من عشرة ملايين شخص، وتدمير المدن والقرى، لتقتنع أخيراً بأن الخيار العسكري في هذا البلد مستحيل، وأن الحل في دعم وتعزيز فلسفة الحوار بين مكونات الشعب السوري وفرقائه، وعدم التمترس خلف شعارات تغيير الأنظمة بالقوة، واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار قياداتها، وفق ارادتها الحرة.
لقد أدرك أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة مؤخراً أن سياسة القطب الواحد صاحب الحق المطلق في اختيار واملاء ما يريد لشعوب العالم، والتي سادت على مدار ربع القرن الماضي، أثبتت فشلها الذريع، ووصلت الى طريق مسدود. فروسيا، ومعها حلفاء فاعلين ولاعبين دوليين كبار، كالصين والهند، ودول أخرى مؤثرة في آسيا وأمريكا اللاتينية وافريقيا، ترفض، وبالفم الملآن الدخول في بيت الطاعة الأمريكي، وتجهر قولاً وعملاً بحقها في الدفاع عن مصالحها الحيوية، وبناء عالم متعدد الأقطاب، تسوده قيم الحق، والعدل، واحترام مصالح الدول والأمم، بل وأثبتت انها قادرة على فرض وقائع ومعادلات دولية جديدة كفيلة باجبار الولايات المتحدة على مراجعة سياساتها وعقيدتها العسكرية اقليمياً وكونياً.
كما أن المتابع الموضوعي لما يجري في منطقتنا يوقن تماماً أن الولايات المتحدة خسرت استراتيجياً معركة الربيع العربي الدموي، الذي راهنت على توظيفه مع حلفاء لها في المنطقة لخدمة مصالحها الاقليمية والدولية، والذي لن تكون تداعياته القريبة والبعيدة – على ما يبدو- لصالحها.
"فشيزوفرينيا" المواقف من المنظمات التي تصنفها الولايات المتحدة ضمن الارهابية، أصبحت واضحة تماماً. فهي من ناحية تصرح علناً بانها تستهدفها كعدوة دون هوادة، لكنها لا تقوم بما يثبت فعالية ملموسة لهذا العداء على أرض الواقع، وبخاصة ضد تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، والذي حشدت من أجله قوى اقليمية ودولية، في اطار ما سمي بالنحالف ضد الارهاب. فهي ضد الارهاب، وفي نفس الوقت، لا تريد أن تفقد ورقة هذه التنظيمات في عملية التوظيف المستمرة لكل شيء لخدمة مصالحها الجيوسياسية الاستراتيجية في المنطقة وما حولها. وهذا ينطبق على موقفها من النظام السوري الذي لا تمتلك تجاهه سياسة واضحة متماسكة من حيث الأهداف والأدوات وادارة التداعيات المحتملة. وفي المقابل، يبدو أن السياسة الروسية الواضحة والمتماسكة في أهدافها ونهجها المعلن بشفافية، أخذت تحرج الاميركان، بعد أن بدأت تدخل عقول وتجذب قلوب العديد من دول المنطقة، بما فيها أصدقاء أمريكا التقليديين.
وأخيراً، فإذا كانت الولايات المتحدة جادة فيما تزعم حول ايجاد حلول لمشاكل المنطقة، فلماذا تتردد بالانضمام الى تحالف دولي مع كافة الشركاء من داخل وخارج المنطقة، وفق القانون الدولي، وتحت مظلة الأمم المتحدة، بهدف ايجاد الحلول المناسبة لكافة مشاكل المنطقة، بما فيها، بل وفي المقدمة منها، القضية الفلسطينية، والتأسيس لبناء نظام عالمي جديد على أسس راسخة، عمادها قيم الحق والعدالة واحترام مصالح الدول والأمم كبيرها وصغيرها، والتفرغ لحشد الجهود الدولية الجماعية لمحاربة الفقر والجهل، وتعزيز برامج التنمية المستدامة، والصحة والبيئة، وبناء عالم آمن خال من الحروب والخوف وأسلحة الدمار الشامل التي تهدد حضارتنا وبيتنا المشترك!
Dr.zuhair@windowslive.com