هذه مادبا. جرَّةُ السيولِ والينابيع. حارسةُ المعمدانِ والفسيفساء. بيتُ الهواء الجبليّ. جارةُ العنَبِ والزيتون. شهقةُ الغيمِ، وهوَ يشربُ من الوالةِ والهيدان، ويأخذُ خابيةَ نبيذٍ، لينعسَ في ماعين.
تعالوا إلى مادبا. أنتم على الطريق. لا يهمُّ إِنْ كانَ الطريق الملوكيّ، أو طريق تراجانَ. أو طريق البنت. فهنا عاشَ هزّاع المجالي، وغالب هلسا، وروكس العزيزي. تعالوا آخذكم إلى قصرِ أحدِ رجالنا. إنّه الشيخُ عادل ابراهيم الجميعان الكرادشة، حيثُ كان البيتُ مفتوحاً لنساء ورجال بني حميدة، والبلقاوية، والعزيزات، والمعايعة، ولكلّ أَهْلِ الأردنّ وفلسطين والشام. هو جزءٌ أصيلٌ وحميمٌ من تاريخنا و"هبّةِ" ريحنا.
تعالوا الى هذا البيت المُنيف. ردّدوا مع عرار: "عمّانُ ضاقتْ بي وجئتكم أنتجِعُ الآمالَ في مادبا". البيتُ باتَ مطعماً في شارع الملك طلال. مطعم "حارة جدودنا". حجارةٌ ترفعُ العِليّاتِ والأقواس والأدراج، وترسمُ هندسةَ الأبوابِ والشبابيك، وتستلقي في الزوايا. التحديثُ في المكانِ بسيطٌ، مِثْلَ رتوشٍ على لوحةٍ تاريخيةٍ. الأرضيّاتُ من حجرٍ مرصوفٍ من مطالعِ القرن الماضي. الأشجارُ تنهدلُ على الحيطان، وتلعبُ مع المياه والموسيقى.
التجربةُ هنا في المكانِ قبل الطعام. بعدَ عبورِ ساحةَ القصرِ الغربيّة، تجدُ الزائراتُ والزائرون سيارةً من منتصفِ القرن العشرين، وهذه من مقتنيات العائلةِ العريقة، فصاحبُ البيت كانَ رئيساً لبلدية مادبا، وعائلته من أعرق بيوتاتها وأحيائها، وأولاده يحافظون على هذا الإرث. ثمَّ تُرحّبُ بكنَّ وبكم عميدةُ "حارة جدودنا" السيدة عائدة الطوال، بزّيها التراثيّ الأنيق.
الجلوسُ في ساحاتِ الحارةِ وطوابقها وغرفها متعةٌ ذهنيّة خاصة. لا بُدَّ من نظرةٍ واسعةٍ في التفاصيلِ، والتحديقِ في السقوفِ، ثمّ في الدهشةِ على وجوهِ السيّاح، وهم يلتقطونَ الصورَ، ويسألونَ عن مُكوّّنات الأطباق. وفي عينِ هذا الجمال، ثمّةَ فيروزُ أيضاً: "جبليّة النسْمة جبليّة".
دائماً، حين أزورُ "حارة جدودنا" أودُّ أنْ أسمعَ توفيق النّمري. تحديداً "لوحيْ بطرفِ المنديلِ مشنشلْ برْباعْ/ يا امّ ارموشِ الطويلة، وعيونِ وساعْ". ربما في المرّة القادمة، سأطلبها من عميدة الحارة.
الطعامُ من غموسِ بيوتِ مادبا. المائدةُ الأردنيةُ حاضرةٌ وشهيّة، بمذاقها الشاميّ. كلُّ ما على طاولاتِ الخشب من لحومٍ وخضارٍ وأعشابٍ يأتي من السهولِ المجاورة. الشرابُ الأردنيُّ متاحٌ وعامرٌ بالعنبِ واليانسون، إذا شئتم، وكنتم حريصين على عَرَق جباهنا وكرومنا. ثمَّ أنّ المكانَ يغمرُ من يُحبّهُ بالرِّضى، فيقتصدُ من الميسورِ، ولا يُسرِفُ إلاّ في البهجة.
تعالوا إلى أغنيةٍ في مادبا، وخبزٍ أردنيٍّ، وآنيةِ نُحاسٍ، وخذوا حظَّكم من رذاذِ المساء، وكؤوسِ النُعاس..