كان مواطنا عاديا مثل بقية خلق الله , نلتقيه في كل أو غالبية مناسباتنا الاجتماعية من أفراح وأتراح وكذلك في طوابير الخبز أو الكاز , كنا نتحدث أحيانا كثيرة في مواضيع مختلفة نتنقل بين ارتفاع أو إنخفاض أسعار الخضار والفواكه وبين التعيينات في الوظائف الحكومية العليا وكثيرا ما كان صاحبي يضرع إلى الله أن يهديه إلى معرفة الطريقة التي توصل إلى تلك المناصب , ويضيف مقسما بالله بأنه إذا عرف الطريق ووصل إلى مراده لن يغير من سلوكياته التي عرفناها منه ولن يتكبر على صديق قديم أو رفيق طابور أو شريك زنقة تقاسم معه الخمسة دنانير أو أقل لتأمين حاجة لا تحتمل التأجيل ليوم الراتب نهاية الشهر .
دارت الأيام ومرت السنون وإذ بالصحف مليئة بإعلانات التهاني والتبريك بالموقع الجديد وصور صاحبنا ما غيره تزين تلك الإعلانات وبالألوان , ناهيك عن العبارات الرنانه مثل هنيئا للوطن بأمثالك , والرجل المناسب في المكان المناسب .... الخ . تحمست للمشاركة في هذا الكرنفال وذهبت من توي لمكاتب إحدى الصحف ومعي صورة قديمة لصاحبي من أيام الجامعه كتب على ظهرها بقلم رصاص أبو الشلن بأن الذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان , قلت للموظف أريد مساحة كبيرة في صحيفتكم لنشر تهنئه تتناسب مع عمق علاقاتي بصاحب هذه الصورة فنحن أصدقاء منذ فترة طويلة , ولا يجوز أن أتخلف عن ذلك مهما بلغت تكاليف الإعلان , لقد قرأت أسماء مهنئين لم يعرفوا صاحبي أو يعرفهم في يوم من الأيام وأنا أحق منهم بذلك . سعد الموظف بطلبي ووقف على حيله قائلا (بالله هو صاحبك كثير ؟ ) أكدت له ذلك باعتزاز وقلت له ( مش بس هيك إذا بدك بعرفك عليه ) .ازداد حماس الموظف لخدمتي وأخرج لي مجموعة صور لصاحبي قال إن الصحيفة حصلت عليها حديثا وهي على الموضه وأنسب للنشر حيث أنها معالجة على الكمبيوتر , وبدأ باستعراض أسعار مساحات الإعلان لأكتشف بأنني لا أستطيع تحمل تكاليف أصغرها مساحة . قلت في نفسي قاتل الله قلة الإمكانيات المالية فقد حالت بيني وبين تكريم صاحبي , أعدت الصورة ومسودة صيغة التهنئة إلى جيبي واستأذنت الموظف بلباقة متحججا برغبتي بإعادة صياغة بعض العبارات بينما كنت في الحقيقة قد قررت الاستعاضة عن ذلك بزيارة صاحبي وتهنئته في مكتبه .
في اليوم التالي وبمكتب السكرتاريا أثناء انتظارنا لحين فراغ صاحبنا من اجتماع هام في مكتبه حسب قول السكرتيره أطال الله فستانها , سمعت بعض الجلساء يتهامسون حول عدم أهلية من جاءوا لتهنئته وكم من الإمتيازات سيحصل عليها وهو ليس جدير بها , هممت التدخل بالحديث وإذ بالسكرتيرة تتكرم علينا وتسمح لنا بالدخول معلنة انتهاء الاجتماع المزعوم حيث لم نر أحدا يدخل أو يخرج من المكتب , وإنما كان ذلك فقط من باب البريستيج وتبرعا من الموظفين لتدريب المسؤول الجديد على كيفية الإستعلاء على المراجعين . بعد الوصول إلى صاحبنا كان أبدعنا بالنفاق والتزلف وتعداد ميزاته وصفاته وقدراته الخارقة من كان يهمس بعكس ذلك قبل الدخول !!
هذا غيض من فيض ممارساتنا اليومية على أعتاب المسؤولين , أفلا نكون بذلك جميعا شركاء في إفسادهم ؟ ألسنا نحن من نزرع فيهم حب الكراسي عندما نصفق للقادمين ونلعن الذاهبين ؟ ألسنا من ندفعهم لتقبيل تلك الكراسي حرصا على إتقاء شر الناقدين وجلب المادحين ؟ وبعد ذلك ننادي بمكافحة الفاسدين !!!