كانت الاذاعة تصدر اشارتها من عمان والقدس... وكان الحجاج يستكملون حجهم بالتقديس والعابدون من البدو والحضر يصلون الجمعة والاعياد في الحرم القدسي.. ونمر العدوان يتلقى تعليمه في مدارسها.. والزوايا تجذب طلاب العلم ممن يودون ان يصبحوا شيوخا وعلماء وفقهاء في الدين.. والكل يتذكر حيوية وروح المدينة التي تضفي جلالها وقدسيتها على كل القادمين لها من حجاج ونساك ورهبان وعابرين.
منذ عام 1967 ونحن نتحدث عن القدس وعن الارض التي خرج الكثير من اهلها منها وبقيت في قلوبهم ووجدانهم فمن الصعب ان تتحدث مع زكي الغول او صبحي غوشه دون المرور على ذكرى القدس وقد كانت المفردة الاهم في لغة المرحوم قاسم الريماوي ومراسلات فايز جابر التي ورثها لعبد الله كنعان..
تدريجيا وعام بعد عام يتناقص ذكر القدس في احاديثنا ويشح استخدامها واصبحنا نتحدث عن المقدسات فالقدس التي عرفها سليمان الرتيمة وحابس علي ذياب وسرايا الشهداء تتقلص في ادبياتنا اليوم بعد ان استدخلنا معالي ادوميم وعشرات المسميات الجديدة التي حلت محل التلال والاودية والسفوح والبيوت والشوارع التي عرفها المقاتلون يوم كانوا يلجأون للحجارة بعد نفاد عتادهم.
لم يعد الشيخ جراح وباب الواد والمقابر الاسلامية والمسيحية وباب الخليل جزءاً من اللغة المحكية عندما نستذكر القدس.
في منتصف الستينيات كان الدكتور سري ناصر يأتي بسيارته كل يوم من القدس ليدرس في الجامعة الاردنية ويعود لها بعد ان ينهي يومه الدراسي.. كذلك عبد الكريم الغرايبة الذي كان مديرا للمتحف الاثري فيها قبل ان يستولي عليه الاحتلال ويصادر موجوداته عام 1967.
حتى بعد الاحتلال كان الفلسطينيون يسافرون للقدس بقيود اقل وتعقيدات اقل، كان فيصل الحسيني يقيم في بيت الشرق وكانت العائلات المقدسية المقيمة في المدينة وعلى اطرافها اكثر عددا فالمقدسيون هم الفلسطينيون الذين ابقينا على شيء من صورة وجودهم في ذاكرتنا ببرنامج وثائقي يظهر ناصر الدين النشاشيبي وحازم نسيبة ورفاقهما ممن كانت اصواتهم تشغل الاثير قبل ان يغادر الانجليز.
في عام 1995 كلفت من قبل هيئة اممية بمهمة اعداد برنامج تدريبي لاعادة دمج الاسرى الفلسطينيين المحررين بعد اتفاق اوسلو وقد كنت اقطع الجسر بسيارتي غربا واذكر ذات مساء انني انتقلت من ضاحية الرشيد الى بيت صفافة باقل من ساعة ونصف الساعة.
اليوم حال الامة اسوأ بكثير فهي تلهث غير قادرة على الابقاء على ما هو تحت ارجلها والكل يحارب الكل والجميع ضد الجميع والاسرائيليون يدركون ذلك جيدا.. فالامة لها عشرات المذاهب ومئات الشيوخ والاهتمامات تنصب على البقاء ولا احد معني كثيرا بالقضايا الكبرى.
حتى الاخوة الفلسطينيون مختلفون فيما بينهم حول ضرورة المقاومة وجدوى الانفاق فقد يحفرها البعض ويغرقها البعض الاخر...
في القدس اناس يدافعون عن وجودهم وهويتهم وانسانيتهم وكرامتهم ولا ينتظرون منا الكثير... قد يتوقف الاسرائيليون اليوم او غداً عن الشروع في استكمال مخططهم التهويدي لكن ذلك ليس نهاية المطاف بل هي خطوة في مسلسل الترويض والتدنيس الذي ينفذونه بحرفية ومنهجية مدروسة.