لا أريدُ إلاّ رغيفاً ساخناً من خُبزِ الطابون
باسل الرفايعة
18-09-2015 04:25 PM
لا أريدُ منْ هذهِ الجمعةِ إلاّ رغيفاً ساخناً من خُبزِ الطابون. أُقلِّبهُ بينَ كفيَّ، وأنتزعُ لقمةَ، أغمسها في زيتِ زيتونٍ معصورٍ للتوّ، بلذْعةِ مرارةٍ تمرُّ مروراً كريماً على زعترٍ جبليٍّ، وتحرقُ اللسانَ وسقف الحَلْق، مع جرعةٍ صغيرةٍ من شايٍ قرويٍّ، كثيفِ الحلاوة.
أنا من "يضحكُ للرغيفِ السُخُن".
أتنازلُ عن التجهُّم الأردنيِّ، من أجلِ قُرصٍ ذهبيٍّ من القمحِ المعجونِ في آنيةِ الفضّة. المَرْقوقِ بيدٍ ريفيّةٍ، لا تدمعُ عيناها من دُخانِ الطابون. إنَّه التنّْورُ في ريفٍ آخر. هل رأيتم المِشطَ على رِمْشِ سُنبلة. هل سمعتم التباسَ الينابيعِ في غناءِ الفلاّحات. هل سمعتم عن رغيفٍ يكفي جائعاً سنةً بفصولها ومحصولها. اسمعوا ناظم الغزالي: "منْ وراْ التنّْور تناوشْني الرغيفْ/ يا رغيفِ الحلوْة يكفيني سنهْ". لا تنسَوا مطلع الأغنية: "يمّ العيون السود ما جوزن أنا/ خدّك القِيْمَر أنا أتريّق منهْ". لا يُفطرُ ناظمُ إلاّ قشْطةً من خدِّها.
الطابونُ من ترابٍ وماءٍ ونارٍ. ثالوثُ العناصر، ومُثلّثُ الغموض. الصلصالُ من ذراتٍ جيريّة، تختلطُ بالماءِ والتِبْن، وترتفعُ نصفَ قُبَّةٍ، كنصفِ سماءٍ مفتوحةٍ من أعلى باستدارةِ قَمرٍ من عجينٍ أبيض. بعدَ أن يكتملُ التكوينُ الأسطوريُّ، تضربُ الشمسُ مخادعَ البلل، وتشتعلُ حول الطابون نارُ الحطب، فيستوي على صلابةٍ كبيتِ سُلحفاة.
ينامُ الطابونُ في غرفةٍ حجريةٍ، لا بابَ لها. ترْصِفُ القرويةُ صغارَ الحجارةِ في قاعه. تُسميها "أرْظافاً"، لتنزلَ فوقها أقراصُ العجينِ. الفلاّحةُ عجولةٌ بطبعها. تُحكمُ اغلاقَ طابونها، وتهيلُ عليه الرمادَ والجَمْرَ القادميْن من رَوْثِ الحيوانات، أو من جُذوع الأشجار، وتدعه تحتَ حرارةٍ بركانيةٍ، لتعودَ إلى ما دفنتهُ بعدَ قليلٍ، وإذا بها أمامَ أقمارٍ تفوحُ منها رائحةُ النجومِ وأسرارُ الدخانِ في دربِ التبّانة، ترميها إلى صحنٍ عظيمِ، ثم "تناوشني" الرغيف.
ليس للخبزِ وحده تُوقدُ الطوابين. إنها أيضاً لفطائرِ الزعترِ والجِبنِ واللحمِ وأعشابِ الأرضِ من سبانخَ وخُبيّزةٍ. ولا تنسوا مسخَّن الطابون بلذّة السماق والزيت. مخبوزات هذا التنّور البريِّ إمّا من عجينٍ خامرٍ، تحت رحمةِ البكتيريا، أو من دقيقٍ مخلوطٍ بالماءِ على عَجلٍ. ولا عيبَ في العجّانةِ. فاللذةُ مغموسةٌ في قرمشةِ الخبز المُبلَّلةِ بالُلعاب.
ذلك ممّا كان. طابونُ أمي لا تخمدُ له نار. أفواهٌ مفتوحةٌ، تُصغي لايقاعِ قدميها. تحملُ غنيمةَ الإفطار. تحملُ الرموزَ لتكتملَ الأحلام. ومن ميسورِ البيت، من اللبنِ والبيضِ كبُرت الأكتافُ وارتفعت المناعة. وممّا حانَ أن هذا الصباحَ يستديرُ كخبزِ طابونٍ في البال، ولا بأسَ عليَّ، فهذه جُمْعَةٌ تتذكّرُ، وأنا أكْبُرُ كالحُبِّ والزيتون..