رحم الله الذين قضوا في الحرم المكي، وشافى الله الجرحى، وحادثة الحرم مؤلمة جدا، واثارت حزن الجميع، قبيل ايام من موسم الحج.
لكنك على هامش الدم في مكة، تعجب للعقلية العربية المغرمة بالمؤامرة، اذ فجأة بات الحديث عن سقوط رافعتين في الحرم المكي، في ذات يوم تفجير البرجين في نيويورك اي الحادي عشر من سبتمبر ايلول، بمعنى ان الحادثة انتقامية وقد يكون مكلفا بها طرف هنا او هناك، ولاتجد اغرب من هذا التفسير المؤامراتي لحادث وقع فقط بسبب سرعة الرياح الكبيرة جدا.
يأتيك آخرون ليقولوا: ان هناك صاعقة ضربت الرافعتين، فسقطت واحدة داخل الحرم وثانية خارج الحرم، ويربطون الصاعقة بتوقيت الحادي عشر من سبتمبر، وكأنه يراد ان يقال، ان هناك غضبا سماويا، في هذا التوقيت، والانتقام تم بترتيبات من السماء، والصاعقة مجرد وسيلة.
مايراد قوله هنا بصراحة عدة امور، اولها ان قدسية الحرم المكي لاتمنع حدوث اي حادث، فالكعبة ذاتها هدمت مرات، وتعرضت لطوفانات وزلازل، وذات الحرم المكي حدث فيه قتل واقتتال لحظة اعلن مدعون كاذبون انهم المهدي وجماعته، واضطرت الرياض للتدخل عسكريا، فسقط قتلى منهم، كما ان ذات موسم الحج يشهد حوادث كالنشل والموت المفاجئ والأمراض.
هذا مكان مقدس، لكنه عرضة للحوادث ايضا، واغلبنا يخلط بين قدسية المكان، وحصانته المعروفة دينيا، وبين الحوادث المادية، التي قد تقع بين وقت وآخر، وحتى في بعض مناسك الحج مثل: رمي الجمرات، يحدث احيانا التدافع ويموت من يموت في هكذا ظروف صعبة على الجميع.
المخيال الشعبي ذهب بعيدا وصار يتحدث عن شركة بن لادن في مكة، وعلاقتها العائلية باسامة بن لادن وذكرى تفجيرات نيويورك، وسقوط رافعتين مقابل برجين، والخرافة والشعوذة العقلية لاتغيب عنا، برغم كل الشهادات التي نحملها.
حادث صعب ومؤلم، لكنه يقع، فحصانة المكان الدينية، لا تمنع الحوادث المادية، والا ماذا نقول ايضا عن كل الذين يرحلون في حوادث السير خلال المناسك، او الذين يتعرضون لوباءات مرضية خلال موسم الحج كالكوليرا
سابقا او الانفلونزا وغيرها؟!.
من جهة ثانية تعجب لقدرتنا دوما على تزيين الموت، والاحتفال به بطريقة ساذجة، فالكل تحول من الالم على الذين رحلوا الى تهنئة الراحلين بهكذا موتة شريفة، وانهمرت علينا التهاني في وسائل التواصل الاجتماعي للتحدث عن الموت الشريف في موقع شريف في يوم شريف، ولاتعرف ماهي هذه الثقافة التي تسترخص الناس، وارواحهم وتجد دوما مخرجا جميلا لموتهم، وقد وصلوا الحرم اساسا للصلاة او الحج، وليس من اجل ان يموتوا تحت رافعة حديدية وزنها عشرات الاطنان، لكنها السذاجة التي لا تحلل علميا سرعة الرياح، ولا احتمال الرافعات للهواء، ولا تتحدث عن مسؤولية المقاول، ولا عن اي شيء آخر، من باب المسؤوليات، وتستغرق فقط بالتهنئة على هكذا موتة لأناس تضرروا، ولايسأل احد عن مشاعر عائلاتهم واولادهم واهاليهم، وكأن المسلمين يتمنون موتة تحت طن من الحديد في الحرم المكي، وهي موتة لايريدها الله لعبيده الذين اكرمهم بالحياة والآخرة.
قرأت نصا لشاعر عربي خرف يقول، ان الرافعة سجدت من شدة الشوق للسجود فقتلت من قتلت، وآخر كتب يقول، ان الرافعة تم سؤالها لما فعلت ذلك، فقالت انها مأمورة من الله، وهكذا يتم تحميل الله عز وجل مسؤولية القتلى والجرحى، في غباء منقطع النظير، لايفرق بين العنصر المادي ومسؤولية الانسان فيه، وبين ماينسب الى الله اصلا، فيتم نسبة الخطأ البشري، مهما كان بشعا الى رب العالمين، تعالى عما يقولون.
دم في مكة، يؤلمنا، قبل ايام من الحج، وهذه ليست اول حادثة غير طبيعية، وفي الذاكرة حوادث كثيرة، من الطبيعة والفيضانات والزلازل، وغيرها من حوادث اعتدى فيها البشر على حرمة المكان، كما المهدي وجماعته، فتترحم على من رحلوا حقا، وتتمنى الشفاء للجرحى.
اما واشنطن فليست بحاجة لرافعتين لترد انتقاما للبرجين، اذ احتلت بعد غزوة البرجين، بلدين اثنين، العراق وافغانستان، لمن اراد ان يتذكر، ويتدبر!!.
الدستور