حقٌّ ويقين .. ورحمةٌ للعالمين
ابراهيم العجلوني
12-09-2015 04:39 AM
ليس لجيل العرب هذا عناية بدرس مقارنة الأديان، ولا بالنقد التاريخي الذي يمكن لنا أن نتبيّن به ظروف النشأة الأُولى لكثير من العقائد التي تحكم عقول البشر وأنفسهم، ولا سيما فيما يُسمى بالعالم الحر في الجانب الغربي من كرتنا الأرضية.
ونحن نستطيع أن نذكر عفو الخاطر أعلاما كبارا من اجدادنا كانت لهم أبلغ العناية في ذلك، مثل الشهرستاني صاحب «المِلل والنحل» والبيروني صاحب «تحقيق ما للهند من مقولة» والقاضي عبدالجبار صاحب «تثبيت دلائل النبوة»؛ ومثل الجاحظ وابن تيمية وغيرهما ممن استهواهم البحث العلمي في العقائد والأديان.
وإن مما قد يلفت انتباه أُولي الألباب ان سبينوزا صاحب كتاب «رسالة في اللاهوت والسياسة» التي ترجمها إلى العربية الدكتور حسن حنفي قد افاد من كتاب ابن حزم الاندلسي في باب النقد التاريخي لكتب العقائد، وان الأديب والفيلسوف الفرنسي فولتير افاد من كتاب سبينوزوا فائدة كبيرة في قاموسه الفلسفي، وأنهما لم يشيرا الى الاصل العربي لكثير من نقداتهما التي اثبتاها في كتابيهما، مع التذكير بان فولتير اساء الادب الى نبي الاسلام سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، في احد كتبه، على الرغم من افادته وافادة كثير من فلاسفة التنوير من الاسلام، كما اشرنا في مقالة سابقة عن «الاسلام وفلاسفة التنوير الأوروبي»، على حين لم تَتبدَّ مثل تلك الاساءة من سبينوزا الذي يقطع بعض الدارسين بانه افاد من محيي الدين بن عربي في مقولته عن الطبيعة الخالقة والطبيعة المخلوقة.
ان اليمين المسيحي المتطرف في أميركا اليوم لا يتخذ مرجعيته من الاناجيل بل يتخذها من التوراة والتلمود. وإن مما يتفق عليه علماء النقد التاريخي لنصوص التوراة (العهد القديم)، ان النبي موسى عليه السلام لم يكتب الاسفار الخمسة المعروفة باسمه، وان «عزرا» هو الذي صاغها على نحو ما يقرأونها اليوم. وان سفر التكوين اثر من آثار الاساطير الشرقية القديمة. وان نص «في البدء خلق الله السماء والأرض» موجود عند الفينيقيين اخذه العبرانيون عنهم. وان ما في التوراة عن الروح مأخوذ عن الكاتب الفينيقي «ساتشو نباتون» وان ثمة تعارضا شديدا بين تواريخ سفر الملوك وسفر اخبار الأيام لا يمكن ان ننسبه (بما فيه من أخطاءٍ حسابية) الى الله العليم الخبير.
اما «سفر ايوب» فهو مترجم من العربية. ومؤلفه عربي عاش قبل موسى عليه السلام.
كما ان بعض هؤلاء الدارسين ينكر نسبة اسفار سليمان له، ولا سيما سفر «نشيد الانشاد»، الذي يرونه سفراً دنيوياً (حسيّاً) محضاً. وغير ذلك كثير.
ونحن اذ نأتي بهذا كله نستذكر مقالة للاستاذ عيسى الناعوري ينادي فيها بفك ارتباط روحي وقيمي بين العهد القديم (التوراة) وبين العهد الجديد (الاناجيل). ونؤكد ان القرآن الكريم، وهو وحي السماء الاخير، المحفوظ (لا ريب فيه) الى ساعتنا هذه؛ يشتمل على جوهر الدين الذي يريده الله سبحانه للناس جميعا ففيه «التوحيد» وفيه «الاخلاق» وفيه التشريع الضابط لحركة الحياة. وهو، لذلك، جماع الرسالات ونملك ان نرى فيه تعاليم التوراة الحقيقية وتعاليم الانجيل معاً.
ولو اننا نعمد الى جمع كل ما يتعلق – في القرآن – بسيدنا المسيح عليه السلام، وسيدتنا مريم البتول عليها السلام، وسيدنا يحيى (يوحنا المعمدان) عليه السلام، وتلامذة سيدنا المسيح (الحواريين) لَكَان لنا من ذلك
«إنجيل قرآني» قد يزيد عدد صفحات على واحدٍ من أناجيل العهد الجديد.
فإذا علمنا أن هذا النص المجموعَ عن المسيح عليه السلام وأُمّه وتلاميذه هو قرآن نقدّسه ونتعبّد به تبيّن لنا أي أُنموذج عالٍ للعلاقة مع الكتابيّ المختلف رسمه الاسلام لنا، وتبيّن لنا ان الأُمّة الوسط الشاهدة لا يمكن إلا أن تكون أمّة العدل والتسامح والتراحم، وأن نبيها الكريم أُرسِلَ بحق ويقين رحمة للعالمين.
الرأي