عبدالسلام المجالي .. عطاء فوق حدود الواجب
د. صبري ربيحات
10-09-2015 06:27 AM
في صيف عام 1973 تلقيت ومعي المئات من شباب الأردن رسالة بتوقيع الدكتور عبدالسلام المجالي تخبرنا بأن الجامعة الاردنية اتخذت قرارا بتوفير مقاعد لكل اوائل الثانوية على مناطقهم في المملكة حيث كان اطال الله في عمره رئيسا للجامعة الاردنية.
بعد أيام حزمت امتعتي تاركاً قريتنا الوادعة تحت سفح اضخم كتلة صخرية متوجهاً إلى عمان التي كانت تعج شرايين قلبها بالحياة، فأمانة العاصمة تجاور المدرج الروماني ومواقف السرفيس المتجهة شرقا وجنوبا في ساحتها واسواق الخضار والملابس وعشرات المنشآت.
في وسط المدينة تعلو أصوات باعة الصحف وسماسرة السرفيس وزوامير السيارات والباصات التي لم تكن تزيد عن 30 ألف مركبة.
في تلك الأيام كانت الجامعة الاردنية تبدو أكثر قربا للسلط منها لعمان حيث تنتهي حدود الاعمار العماني عند اطراف دوار الداخلية، وكانت المواصلات لها تقوم على "باصين" لونهما أبيض كتب على جنباتهما بخط باهت "الجامعة الاردنية" إضافة إلى عدد من الباصات التي جرى استيرادها من ايران وبدت مختلفة في شكلها عن باصات الجامعة التي كان جزء من جسمها الحامل لمحركها متقدما على قمرة قيادتها وركابها.
الرحلة إلى الجامعة تبدأ من أمام فندق صلاح الدين لباصات الجامعة أو أمام بنك القاهرة عمان لمن يودون استخدام اسطول الباصات الجديدة ايرانية المنشأ والتي انتشرت على بقية خطوط عمان الداخلية وجاءت بحجمين يتسع أحدهما قرابة العشرين والثاني في حدود الخمسين راكباً.
في اليوم الاول الذي استقلينا فيه باص الجامعة الابيض تملكتنا نشوة لا تُضاهى، فنحن في طريقنا الى حرم الجامعة التي تحدث عنها أول الخريجين من بلدنا "المرحوم خالد عواد" وقال لنا ان في الجامعة شخصية اسطورية تعمل بحب وتعطي بلا حدود.
في المبنى المحاذي لمدرج سمير الرفاعي حيث المئات من الطلاب والطالبات الجدد القادمين من خلفيات اقتصادية واجتماعية وطبقية، فالثراء واضح يطبع نفسه على وجنات الصبايا وقصات شعورهن، وشمس الحصاد تركت اثارها على وجوه القادمين من الأرياف والبادية ممن اكتشفوا كريمات تصفيف الشعر واستخدموها للمرة الاولى في ذلك اليوم فبدت مظاهرهم أكثر غرابة.
لم تخفِ دهشتنا واستغرابنا للأجواء الجديدة التي سيجلس فيها الشباب على مقربة من الصبايا يتحدثون ويتحاورون وربما يجلسون حول طاولة الكافتيريا وينجح أحدهم في ان يقول شيئا يعجب الصبايا فيبتسم بعضهن تعبيراً عن التقدير لخفة الدم المصطنعة التي كانت تجهد صاحبها وتمثل تفاوضا على القبول اكثر من موهبة لصناعة الفرح.
**
في ذلك اليوم "اي اليوم الاول للدراسة " جرت جلجلة عند مبنى الرئاسة حيث انتقل الحراس الذين كانوا يبسطون هيبتهم على الحرم الجامعي واذا بموكب جلالة الملك الحسين وبصحبته زيد الرفاعي ولمحت رجلا يفيض هيبة الى جانب الملك الذي ترجل من سيارة المرسيدس التي يقودها نقيب من الحرس الملكي الخاص.
كانت هذه المرة الاولى التي تقع فيها عيوني على الدكتور عبد السلام المجالي، كنا نلمحه يوميا يتجول في الجامعة حيث يبعث حضوره الوقار والنظام واعتداد الطلبة بجامعتهم....عبدالسلام المجالي يأخذ جولاته اليومية في الحرم الجامعي وهو في وضع التأمل ينظر للاعلى وغالبا ما يسير وحيداً يحيي الطلبة ويقف مع بعض الموظفين والحراس ....في كثير من الايام كان ياتي لمطعم الجامعة ويقف في صف الطلبة منتظرا الدور ويختار اطباقه ويحاسب عنها ثم يجلس على طاولة في صالتنا يتناول وجبته كان يعلمنا الانضباط واحترام النظام والانسانية والاهتمام بالتفاصيل سلوكا لا وعضا وفعلا لا قولا.
في مادة المدخل الى علم الاجتماع التي يدرسها الدكتور سري ناصر كان عبد السلام المجالي ياخذ احد كراسي الصف الاول في قاعة مبنى كلية الاداب حيث التعليم على غير شاكلة المحاضرات الاخرى....حضور الرئيس في قاعات الدرس كان نموذجا من نماذج ضبط جودة التعليم وحماية لاساتذة الجامعة غير التقليدين من اتهامات بعض المتشددين فقد كان الرئيس يحتفي بالتنوع والاختلاف ويشجع على الراي والراي الاخر دون ضجيج كما يفعل الكثيرين منا هذه الايام..
لقد ظل عبدالسلام المجالي استاذا ومفكرا وقيادة ومواطنا وشيخا صادقا شجاعا صاحب صوت لا يخفت ارضاء لصاحب نفوذ وغير مجامل او مساوم على ما يخالف قناعاته.
في التسعينيات من القرن الماضي وبعد ان فرغ من ابرام معاهدة السلام التي قد نختلف او نتفق عليها كلف برئاسة الحكومة وكان ديمقراطيا بالفطرة فلم يفاوض النواب على ثقة شكلية وكان يمارس سياسة نقية بلا الاعيب او دهلزة طالما شهدناها تمارس من قبل السياسيين والموظفين في السياسة على حد سواء.....
في المواقع التي تولاها وخارجها كان يقول رايه بلا هوادة ويطبق قناعاته ويقول ما يعتقد انه صواب...قد يختلف البعض منا مع ما قام به عبدالسلام المجالي ...فللرجل شخصيته وقناعاته ....لكن الذي لا يختلف عليه اثنين ان عبدالسلام المجالي شخصية اردنية نقية احبت الاردن واعطته كل ما اوتيت من عمل وفكر وحب اكسبه احترام كل الذين عرفوه منذ ان بدأ رحلته طبيبا في القوات المسلحة الى الايام التي تولى فيها اكثر مسؤوليات الدولة جسامة وعظما.....
اليوم يسعد اصدقاء ابا سامر ومحبيه بانه تجاوز ازمته الصحية ويضرعون الى العلي القدير ان يحفظ عبدالسلام ويمتعه بالصحة والسعادة فنحن احوج ما نكون للفكر الصافي والخلق الرفيع والجرأة التي لا يشوبها خوف او نفاق.