facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




"موال الهوى" لحظات بطولية لجميع الشخصيات


07-09-2015 04:11 PM

عمون - صدر عن دار نشر "إبداع" بالإسكندرية/مصر رواية "موال الهوى" للروائي اللبناني عادل صوما المقيم في الولايات المتحدة.

الرواية في ظاهرها قصة حب لكن في عمقها تتناول القيم التي اندثرت والتي ستختفي من حياتنا، بسبب اساليب الحياة الحديثة التي سهّلت الاتصال بين البشر، وجعلته أكثر تعقيدا في الوقت نفسه، كما جعلت المعيشة باهظة التكاليف والوقت يبدو قصيرا وسريعا، إضافة إلى النوازع الشريرة والوضيعة في النفس الانسانية التي وردت في الرواية بأبشع سلوكياتها احيانا.

"موال الهوى" تقع في 158 صفحة من القطع الوسط، وتدور احداثها في بيروت داخل وعلى هامش مجتمع أهل الفن، حيث جعلت صدفة بطلها يدخل بابه، ثم يتألق بجهده وموهبته الغنائية وحماسه، مع الحفاظ على التدقيق والتروي ومحاسبة النفس للمحافظة على ما وصل اليه.

تفوح الرواية بسمِة كادت ان تختفي من اهل حضارات البحر المتوسط العرب هي كوزموبوليتانية الشخصيات التي تتقبل وتساعد وتتفاعل مع بعضها بعضا، بغض النظر عن اختلاف الثقافة والدين أو حتى المذهب، فبطل الرواية على سبيل المثال مسلم كان يذيع آذان الفجر بدون ميكروفون وهو صغير في حي بيروتي عريق، ثم تعلم في مدارس الرهبنة المارونية وصقل صوته بالترتيل في القداديس! والكوزموبوليتانية المفقودة تلك عبّر عنها كاتب الرواية نفسه الذي قال في مقدمتها: "ولدت في الاسكندرية حين كانت تتحدث بسبع لغات في البيوت واللهجة الاسكندرانية في الشارع".

هل هناك دوافع غير معروفة تدفع الناس إلى العمل بأشغال معينة؟ هل الحب شهوة أم حاجة؟ ما هي الصدفة؟هل عُمر الانسان مكتوب في شفرته الوراثية بغض النظر عن الطريقة التي يعيش بها؟ ما هو الزمن؟ عينات من اسئلة كثيرة تطرحها القصة امامنا من خلال ابطالها، بأسلوب سهل ممتنع وحوارات بعبارات مركّزة غنية حية بالمشاعر، وقصص حب مع المكان وبين الاشخاص وبين الانسان وظروفه المواتية، تنساب خلال احداث وتفاصيل كثيرة جدا، تجعل تجاوز أي فقرة بدون قراءتها يفقد القارئ نهائيا الخيط الذي يربطها، فكل كلمة في الرواية لها معنى في السياق، ولم تأت عفوا، أو لوصف لا لزوم له في عصر الايجاز والسرعة، مع الحفاظ على جمالية الاسلوب والتصوير والاحتفال بالمكان.

جميع شخصيات الرواية ابطال بشكل ما.. كل شخصية لها لحظة بطولية وتتحرك في سياق درامي لم يختره الروائي مطلقا، بل اختارته الظروف والاحداث ومكونات الشخصية نفسها. حياة الشخصيات نفسها موجودة في الكتاب وليس مجرد حكايات كتبها الروائي.



تقديم



المرجح ان الفن أرّق وأجمل ما ينتج القلب الانساني، خصوصا عندما يصدر عن قلب وعقل تحررا من أي أدلجة دينية أو سياسية أو أية منفعة، وعَبَرا فوق حدود الجغرافيا وسجون التاريخ واكاذيبه وسطوة الاساطير، ولم يباليا بأية قوة اخرى، وتجاوزا حتى مشاكل الفنان المبدع نفسه وسلوكه كانسان، لأن الفن عمل راق يحاول التحرر من معيقات الجسد وقضبان الحياة وسقطات النفس ودناءة بعض النوايا، ليصل إلى معنى ما خارج عبثية واحباطات الظروف ولامعقولية سلوك البشر احيانا، ويُلهم عمل الخير أو يشيع البهجة ويهب الامل.
رواية "موّال الهوى" تحمل بعض مضامين حاولتُ ان يستعيدها قارىء العصر؛ أسير فواتير كماليات مكلفة لا لزوم لها، وتفاصيل حياة أصبحت أكثر إحباطا وتعقيدا رغم سهولة وسائل الاتصال والتواصل فيها، وأناقة غربت تحت وطأة عولمة الازياء، التي تصل لإنعدام الذوق احيانا، ما جعل حتى أرقى بيوتات الازياء لا تخجل من عرض موديل رجل ببدلة فخمة للغاية ينتعل شبشب في قدميه، لعله (قارىء الرواية) يكتشف مرة اخرى ان الاولويات الاولى لحياته نفسها، والسعي نحو ما يريد وليس ما يُعرض عليه، والابتسامة والصحة والصداقة الحقة، وهي امور حيوية انزوت في عصر الاستفادة من التقنية والاستنساخ بانواعه كافة، لخلق اجيال متمرسة تَقبل وتنشر ما يقوله الانترنت بفروعه كافة بدون تدقيق. مدمنة على الهاتف الخلوي وما فيه من مفاتيح تقود إلى خيارات وألعاب تفقد الانسان وعيه بمعظم ما حوله. تعيش اسيرة وهم برامج تلفزيون الواقع التي تشكل حياة الناس، بخدع بصرية محكمة الصنع تقدم الوقائع وتخفي الحقائق وتقود العقل إلى المضمون الذي يريده صانعو الفيلم، وهو كلما كنت تافه الجوهر أنيق المظهر لطيفاً لا تعترض، كلما ربحت أكثر واصبحت في دائرة النجومية، تماما كما صانعو الخرائط السياسية في القرية الكونية، الجهلة بالتاريخ وظروف الجغرافيا، غير المبالين بثقافات البشر وتنوع هوياتهم، ولا هم لهم سوى الجشع والشهرة والبطش والقوة.
كتبتُ الرواية بالفصحى اللبنانية، وهي تختلف قليلا عن الفصحى المصرية، حيث سيُنشر الكتاب، بسبب إختلاف درجة إلتزام كل منهما بتوجيهات مجمع اللغة العربية، ورغم ان احداث الرواية وقعت في لبنان، لم اتردد لحظة في طبعها في مصر، لأنني من مواليد الاسكندرية في زمانها الذي كانت فيه مدينة كوزموبوليتانية، ولإنسانية تفاصيليها التي تهم كل البشر.
وقد حدث أمر تقني جعلني اشعر بارتباك شديد بعد الانتهاء من كتابة الرواية وبداية مراجعتها مرة اخيرة استعدادا لتقديمها للناشر، كان إصابة القرص التي احتفظ بها عليه بفيروس، الامر الذي أدى إلى محو كل المعلومات منه بما فيها هذه الرواية، ما جعلني اعزف عن كتابتها مرة ثانية لعدم وجود نص آخر لها على قرص ثان، لكني بعد شهور قررت كتابتها من الذاكرة، وكانت تجربة فريدة لم اختبرها من قبل، لأني لم اكتبها من مخيلتي كما حدث أول مرة، بل كنت اصغي إلى ما يشبه صوت الراوي في دماغي، وهو على ما يبدو لي تفاصيلها وشخصياتها وذكرياتها في ذاكرتي، ولعل الحسنة الوحيدة من هذه الورطة كانت في تغيير تقنية الرواية التي بدأتها أول مرة من الذروة بطريقة فلاش باك، ثم قررت ان اكتبها كمقطوعة Bolero الموسيقية، من وحي احداثها وشخصياتها الفنية، فجعلتها تبدأ خافتة تماما وسرت على المنوال نفسه من فصل إلى فصل، إلى ان تسارعت الاحداث وتفاعلت سلوكيات وتصرفات ابطالها تلقائيا، وانتهت الرواية عند بلوغ الذروة وتلاحم البداية بالنهاية.
"موال الهوى" جزء أول متكامل تماما، سيتبعه جزء ثان برواية اخرى بعنوان "إحداثيات خطوط الكف".

عادل صوما
kutouz@gamil.com


1



- هل هناك أجمل من تحية الناس ومحبتهم؟
همس جلال غندور لنفسه على خشبة المسرح، والحاضرون يصفقون له ويهللون، بينما بعض الفتيات يصرخن من فرط انسجامهن من الاغاني التي غنّاها مطربهم المحبوب، بعد نهاية وصلته الغنائية التي امتدت منذ منتصف الليل حتى قرابة الساعة الثانية صباحا، وبدا للحاضرين جميعا وحتى للفرقة الموسيقية انه يتردد في الخروج من المسرح، ليبدأ اغنية اخيرة بناء على طلب محبيه، لكنه لمح جميع الموجودين بنظرة شاملة، وحزم امره واتجه إلى الكواليس، والابتسامة لا تغادر شفتيه وعينيه رغم إرهاقه الواضح.
إتجه غندور، بعدما ذهبت مديرة اعماله دينا إلى منزلها، مع بعض اصدقائه المقربين، الذين يرافقوه في غنائه إلى "عِرزال* الباشا" احد منتجعات مدينة جونيه المطلة على البحر مباشرة، وكالعادة لم تُغلق ابواب مطعمه سوى امام الناس عند الثانية بعد منتصف الليل، وظل عدد قليل جدا من طاقم العاملين لاستقبال المطرب، الذي كان الذهاب إلى المنتجع من طقوسه والتعويذة التي يؤمن انها تجلب الحظ له، بعد الانتهاء من حفلاته الغنائية في لبنان.
- يبدو انك لست على ما يرام الليلة. همس صحافي كان يشارك غندور المائدة وحضر حفلته الغنائية.
- صحيح، رغم ان الجميع قالوا الليلة انني كنت متألقا. قال غندور وهو يبتسم له.
- فعلا كنت في قمة الانشراح، لكن ما الذي يجعلك مضطربا؟
- أغنية جديدة في معانيها وحتى لغتها.
- أغنية؟ سأل الصحافي وهو ينظر في عيني المطرب المعروف عنه تحفظه الشديد مع الاعلام الفني ومصادر اخباره.
- نعم! أغنية.. حتى جلال غندور يخاف من أغنية جديدة!
- أعلمُ انك تفرح عادة قبل أغانيك الجديدة؟
- غنيتُ هذه المرة بعيدا عن اللون الذي يعرفه الناس عني.
- ماذا ستغني؟
- اغنية ليست حتى باللغة العربية.
- بأية لغة هي؟
- الامازيجية.
- لماذا ستغني بهذه اللغة؟
- أحببت معاني الاغنية وجعلتني ظروفها أتحمس لأغنيها.
لم يعد غندور الى شقته فجر ذلك اليوم، بل قاد سيارته الى منزل ابيه في حي رأس النبع، الذي يشعر بحنين النوم فيه من فترة لأخرى، حيث لم تزل غرفته كما هي، منذ تركها بعد ان دخل عالم الشهرة واصبح قادرا على شراء طابق بالتقسيط في عمارة بديعة في منطقة ساحل علما، إستطاع ان يختصر مدة تسديد ثمنها في خلال سنة ونصف، وليس ستة وثلاثين شهرا كما نص عقد البيع. ورغم وجود منزله على ربوة تشرف على البحر وتطل على الجبل، الاّ ان بيته القديم الذي تربى فيه كان صاحب مكانة واطياف وذكريات ورائحة غير قابلة للمقارنة في قلبه مع أي مكان اخر، وكان يصعد درج البيت البيروتي ذي التفاصيل نادرة الوجود في البناء الحديث، وهو يتوقع ان يجد اباه محمود يستعد للذهاب الى دكانه كما هي عادته، بينما زوجة ابيه تبدأ نهارها مبكرا بعمل القهوة الصباحية، التي تشربها عادة مع زوجها بعد إفطار خفيف.
- صباح الخير. إستقبلتني رائحة القهوة على الدرج. قال لملكة زوجة ابيه.
- صباح الخير. كيف كانت حفلتك؟
- جميلة جدا. اين أبي؟
- صباح الخير يابني. قال والده وهو يخرج من غرفة نومه عندما سمع صوته.
* العِرزال هو غرفة خشبية تُبنى على شجرة قديمة طويلة العمر وبين فروعها.
- متى ستتقاعد يا سيد محمود؟ سأل جلال اباه مداعبا.
- أتقاعد؟ هذا الامر غير موجود في تفكيري.
- وّظف احدهم ليساعدك. على الأقل، ليفتح الدكان صباحا وتذهب انت وقت ما تشاء.
- تعوّد جسمي على هذا الاسلوب، وعندما سأشعر بوطأة تقدم العمر سأفعل ما قلته. لم تنم كما هي العادة. تبدو متعبا.
- مجرد إرهاق أشعر به منذ يومين. ومنذ يوم ونصف لم أنم. هل تسمحون لي بالاقامة هنا بضعة ايام؟
- اهلا وسهلا بك. لماذا لا تأخذ إجازة؟ سأل محمود بيضون وهو يتأمل ابنه.
- انا في إجازة، ولذلك انا هنا بينكم.
- لماذا لا تؤجل سفرك إلى اميركا؟ ثلاث حفلات ورحلتّي سفر لك خلال شهرين، مجهود مرهق جدا حتى لو كنت شابا. قالت له زوجة ابيه.
- لأنني مرتبط بثلاث حفلات في اميركا لن اكون فيها وحدي بل مع آخرين. ثم ان الامر مجرد إرهاق. سأرتاح تماما بعد عودتي من اميركا.
- كيف كان حفل امس؟ سأله ابوه.
- ظريف للغاية. اين لعبتي الصغيرة؟
- مازال اخوك نائما. قالت ملكة زوجة ابيه.
كان منزل محمود بيضون والد إسماعيل، لأن جلال غندور هو إسم الشهرة، في شارع مواز لكلية طب أسنان اليسوعية؛ شارع بيروتي عريق يؤدي إلى الوسط التجاري التاريخي لبيروت القديمة، الذي كان يُطلق عليه "البلد" قبل سنة 1975، أما المنزل نفسه فهو قطعة فنية من التراث البحر متوسطي، نجت من مدافع حروب لبنان بمعجزة، ولم تهدمها معاول الحداثة فظلت على قيد الحياة مع صاحبها محمود بيضون الذي رفض بيعها، بشرفاتها البيروتية القديمة الكبيرة ونوافذها التي تسمح لألوان اشعة الشمس بالبقاء حتى غروبها، وتتحرك فيها بحرية حسب حركة الارض، في الشقة المكونة من أربع غرف نوم واسعين جدا ومتصلين بغرفة جلوس تستقبل الداخل من الباب، الذي يجاوره مطبخ فسيح فيه شرفة صغيرة، ويعلو الشقة سقف عال يسمح بالتهوية الجيدة، ويمنع إرتفاع الحرارة صيفا ويدرأ برودة بيروت القارسة احيانا في الشتاء.
تغيّر الحي كثيرا عما كان عليه بالنسبة لكبار العمر، لكن بالنسبة لجلال المولود سنة 1976 فقد عايش التغيير منذ ان طفلا، ولم يؤثر فيه عندما بلغ عشرينات عمره، وكان شارعهم "آخر الدنيا" كما كان الاطفال يقولون عنه، لأن الشارع الموازي وفيه كلية طب الاسنان اليسوعية، كان احد خطوط النار التي تفصل احياء بيروت عن بعضها بعضا اثناء الحروب الأهلية، وكان عبوره خطرا جدا لأنه منطقة حرام خالية من السكان بين الاطراف المتقاتلة. أما الدنيا التي عاش فيها جلال فكانت مكونة من ابيه وامه التي توفت وهو في العاشرة، واخته سوسن التي تكبره باربع سنوات والأخ الأكبر منهما إبراهيم.
لا يعي جلال تماما متى بدأ يساعد اباه في دكانه، لأن إبراهيم لم يكن صبورا ليقف ساعات طويلة بائعا، إضافة إلى ان جلال كان صاحب ذاكرة ممتازة منذ نعومة اظافره، إستوعبت عن ظهر قلب جميع اسعار الاجبان والحليب ومنتوجاته والمشروبات الغازية والروحية والبسكويت وما الى هنالك، إضافة إلى قدرة مذهلة على بيع ما قد لا يرغب الزبائن في شرائه احيانا، وكانوا لا يستطيعون مقاومة ظرفه وهو يشرح لهم الفرق بين نوع جبنة يطلبوها وغير موجودة، ونوع آخر يُباع في دكانهم لكنه الأجود والأرخص حسب ما كان يقول لهم.
كان محمود بيضون من الذين يقيمون صلاة الفجر يوما أو يومين في الاسبوع في المسجد القريب من بيته، ثم تحولت إلى عادة يومية بعد وفاة زوجته إثر مرض خبيث، يبدأ بها "يومه المبارك" حسب ما كان يقول، بعد ان اصابته وفاة زوجته، التي رحلت بعد شهور قليلة من مرضها، بزلزال جعل كل شيء يتمايل في حياة اسرة مكونة من ولدين وفتاة، وأب تزوج صغيرا وترمّل في اواخر ثلاثينات عمره وأصبح موزعا ما بين الاهتمام بدكانه الذي ورثه عن أبيه ويرتزق ويُطعم اولاده منه، والإلتزام بتربية صغار يحتاجون لرعاية وتوجيه وإهتمام دائم.
كانت صلاة الفجر معين محمود بيضون على مواجهة متطلبات يومه التي لا تتوقف، ولأن جلال كان يلازمه فترة العطلة الصيفية لفتح الدكان، فقد كان بمبادرة شخصية، رفيق ابيه اليومي في صلاة الفجر صيفا، وبدأ مقلدا قيامه وسجوده، ثم تعلّم بسرعة الصلوات التي تُقال، ووجد نفسه بعد ان إشتد عوده قليلا، يطلب من إمام المسجد ان يؤذن آذان الفجر، فسمح له الرجل بعد ان إستمع في مكتبه إلى صحة الآذان الذي يقوله، لأنه كان يثق فيه ويعلّم تماما إنضباطه في المواعيد رغم عمره الصغير، ثم ادرك قوة وعمق وجمال صوته وهو يخترق نهاية ظلمة الليل ويتردد في زوايا الحي، فلم يندم مطلقا على إختياره، رغم ان بعض الناس ألمحوا إلى عدم جواز ولد صغير لإذاعة الآذان، خصوصا انه يقف في محل يبيع البيرة والعرق والخمرة. وقد شجع هذا الامر جلال على مواصلة إعلان آذان الفجر في جميع الفصول، ولم يكن يمنعه عن ذلك سوى إصابته ببرد أو بعض الامراض التي تصيب من هم في مثل عمره.
حث الجيران جلال على تثمين هبة جمال صوته وتميّزه وقدرته على اداء امور اخرى غير الآذان، فبدأ من ثمة يضيف شيئا جديدا يسليه بعد الظهر في فراغ بيت بدون أم هو الغناء، كما كان يغني ايضا في بعض الفترات التي لا يكون الزبائن فيها في المحل، واثناء عدم وجود ابيه ايضا، وسرعان ما ترسخت هذه العادة الجديدة التي سيطرت على مشاعره، ودفعته ليتعلم العزف على آلة الاكورديون بواسطة احد الجيران الهواة، تلك الآلة التي احب سماعها في الافراح، وكان يعزف عليها "سماعي" بدون إستخدام النوتة الموسيقية كما علّمه الجار، الذي نصحه بتعلّم العزف على العود، فجميع المطربين العازفين عازفو عود لا اوكورديون، لكن جلال وجد نفسه غير منسجمة مع آلة العود في مدرسة الحي، فتركه لأنه لم يجد من يعلّمه كيف يحرك انامله على الاوتار.
- هل تعتقد أنني يمكن ان اكون مطربا؟ سأل إسماعيل وهو في الرابعة عشر من عمره جاره يوما.
- ربما.. لأنك تملك صوتا جميلا. قالت زوجة جارهم.
- ولماذ قلتي ربما؟
- هي تعني انه يمكن ان يتغير بعد المراهقة، وانت نفسك يمكن ان تتجه لمهنة اخرى. قال جاره.
- وكيف يمكن الخروج من "آخر الدنيا" إلى عالم الغناء، لو ظل صوتي على جماله؟ سأله إسماعيل وعقله لا يستوعب كيف يبدأ الانسان طريق الشهرة.
- يحتاج المرء إلى الحظ احيانا.
- ما هو الحظ؟ سأله إسماعيل.
- ان تكون في المكان المناسب واللحظة المناسبة مع شخص يجلب الحظ السعيد.
- هل يمكن ان تحدث معي هذه الصدفة؟
- ويجب ان تستوعب انت أهمية هذه الومضة التي لن تتكرر بتاتا فتتحرك بسرعة، وإلاّ ظليت كل عمرك تتحرك في دائرة اسف لا تتغير.
كان محمود بيضون من الذين يعتقدون ان المدارس التي يديرها كهنة تقدم أفضل المستويات العلمية، لذلك جعل إبنه يلتحق بمدرسة الحكمة في حي القنطاري في المرحلة الاعدادية، لتؤهله بالإلتحاق بمعهد الحكمة بالاشرفية في المرحلة الثانوية، وقد جعلت هذه المدرسة إسماعيل يدرك حقيقة اخرى هي وجود دين آخر يتميز بأشياء غير موجودة في الاسلام، مثل التماثيل والصور والصلاة بالحذاء وإنارة الشموع في الكنيسة الملحقة بالمدرسة، ما دفعه لقراءة بعض دروس الدين المسيحي في كتب زملائه المسيحيين بسبب فضوله الشديد لمعرفة المسيحية، التي سأل اباه عنها وسمع منه ردا ممتازا عن المسيحيين ودينهم بشكل عام، وقد إستشهد محمود بآيات من القرآن، علق بعضها في ذهن إبنه خصوصا الآية التي تقول: "وإذ قالت الملائكة: يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"، وصادفت في نفس الولد الصغير قبولا كبيرا، لأنه كان ينظر بإعجاب شديد إلى تمثالها في كنيسة المدرسة، ويتعجب من وصول إمرأة إلى هذه المكانة الرفيعة، لدرجة صنع تمثال لها، ولم يمانع ابوه وضع تمثال للعذراء بجوار سرير ابنه الذي اشتراه من مصروفه من مكتبة كنيسة المدرسة، لأنها سيدة مباركة تحفظ من يحبها حسب ما قيل له.
طالما ذهب إسماعيل على دراجته من رأس النبع إلى القنطاري، وكان يحلم بيوم يقتني فيه "فسبا" وهو يغني اثناء قيادته للمدرسة، وكان هاجسه هو كيف يجد الطريق إلى عالم الفن، بعد ان بدأ يخرج قليلا من "آخر الدنيا". كانت المسألة بالنسبة إليه لغزا يشبه كلمات متقاطعة بلغة أعلى من مستواه، واعتقد انه وضع أول كلمة صحيحة على شبكتها عندما إختاروه ليغني في حفلات مناسبات المدرسة المختلفة، وأسعده جدا إستحسان الحاضرين لصوته، وطلب نسخة عن تسجيل أغنيته في أول حفلة غنى فيها، وكان يستمع إليها كثيرا في منزله، ويرفع صوت آلة التسجيل احيانا ليُظهر للجيران شهرته.
عاش إسماعيل مع أخ وأخت أكبر منه، وقد تميزت اخته سوسن منذ نعومة اظافرها بسلوك خبيث وطبع حقود وكلمات مستفِزة عدوانية، كانت أمها تسأل نفسها احيانا أو من حولها كيف ورثتهم ومِن مَن، فلا هي تملك هذه الصفات ولا زوجها.
- ابوك رجل طيب وانا لا استطيع إيذاء نملة. من اين اتيت بهذه الطباع ياعقربة؟ كانت امها تصرخ فيها احيانا حين تؤذي احد اخويها.
كانت سوسن تسير كحيّة، تختلس النظر إلى الناس ولا تنظر مباشرة حتى إلى من يتحدث معها، ذات موهبة فذّة في الجدل واختيار كلمات تثير الاستفزاز، دائمة المقارنة بين نفسها واترابها، وكانت هي تحديدا هاجس محمود بيضون الذي كان يعتقد جازما بأنها ستعيش عانسا، وبدأ هاجسه يؤرق حياته أكثر عندما وجد إمرأة جعلت قلبه الاربعيني الارمل يتحرك شوقا إليها، وعقله يجدها زوجة مناسبة لظروفه بشكل عام.
- ملكة؟! سألته إبنته سوسن بإستفزاز وهو يتحدث مع اولاده ذات مساء عن حاجته للزواج ووجود إمرأة في المنزل ترعاهم، بعد سنوات من وفاة زوجته الاولى حليمة.
- هل تعرفيها؟ سألها ابوها الذي يعلم مقدرتها المذهلة على معرفة اخبار سكان الحي كافة وزبائن المحل رغم إنها لا تجلس فيه.
- هي احدى زبونات الدكان. أليس كذلك؟
- والأهم انها مناسبة لي ولكم.
- انها سيدة طيبة جدا. قال إسماعيل.
- الامل ان تكون طيبة معنا. قالت سوسن. لكنها مطلقة. أليس كذلك؟ سألت اباها.
- وهل تعتقدي انني سأتزوج فتاة في العشرين؟ سألها ابوها.
- ولماذا طلقها زوجها إذا كانت طيبة كما قال الذكي؟
- اولا هذّبي كلامك وانت تتحدثي مع اخيك. ثانيا طلقها زوجها لأنها لا تنجب، إضافة إلى انه سرق اموالها وما تملك. وفي الواقع هي التي طلبت الطلاق بعدما خدعها واستولى على كل ما تملك.
- ولماذا تتزوج عاقرا؟
- وما حاجتي إلى الانجاب؟ كل ظروف هذه المرأة تناسبنا جميعا، ولكي لا تقولوا مستقبلا انني احب اولادي منها أكثر منكم، وحتى لا تحدث مشاكل في الوراثة بعد وفاتي.
- هل ستشاركنا وراثة كل ما تملكه؟ سألته سوسن.
- ابي حر التصرف بما يملكه. الاعمار بيد الله. ربما تموت قبل ابي الذي يتحدث بشكل عام عن مشروع زواج ربما يتم أو لا يحدث. قال اخوها إبراهيم.
دخلت ملكة إلى منزل محمود زوجة اب ومودة إسماعيل لها في قلبه قبل زواجها، ثم حازت بعد فترة على إبتسامة إبراهيم وإحترامه الكبير لها، أما سوسن فقد زرعت بينهما حاجز توتر دائما، لم تستطع الايام إزالته، وكانت سوسن التي لم تحب احد في حياتها، تعلله بعدم إمكانيتها حب إمرأة تحل في البيت بعد امها، أما محمود فكان راضيا بحياته الجديدة، ولا يتوقع المزيد من إبنته تجاه زوجته الثانية، التي كانت تحاول تجنبها دائما، وتتجاهل تماما تعليقاتها المستفزة.
كانت ملكة إمرأة ذات خبرة كبيرة في الحياة، حصلت على تعليم متوسط، أهلّها لكي تعمل في وقت لم يكن عمل المرأة فيه منتشرا بين النساء بالشكل المعروف اليوم، وقد دفعها طموحها الذي كان لا يخبو إلى حلم بناء عمارة تؤجرها وتعيش في بحبوحة من إيرادها، وعمدت في سبيل إكتساب الخبرة اللازمة إلى تأجير شقتين متقابلتين لتعيش في إحداهما، وتؤجر غرف الشقة الاخرى إلى تلميذات قادمات إلى بيروت من اماكن بعيدة للعلم، وبعد نجاح فكرتها غيّرت حلمها وعرضت مشروع "بيت طالبات" صغير على احد البنوك، ما أهلّها إلى الموافقة على فتح اعتماد لها بعد رهن عقار يملكه ابوها، جعلها صاحبة عمارة مكون من ثلات طوابق فيها عشرون غرفة.
بدت ملكة بملامحها البسيطة وسنوات عمرها الثلاثين، كأنها إحدى المستأجرات وليس صاحبة ومديرة "البيت" كما كانت تقول الساكنات عنه، وقد ساعدها كونها وحيدة لأبوين كبيرين في العمر، على ان تكون عصامية صاحبة إرادة من حديد وعناد في الصمود امام أية مشكلة تواجهها في حياتها. وقد عاشت حتى عقدها الثالث غير عابئة بالزواج، وتعتبره عائقا امام تحقيق هدفها في الحياة، وتبحث في الوقت نفسه عن رجل منفتح الذهن، يتقبلها كما في نطاق عملها وما يحتاجه مشروعها، ويكون بعيدا تماما عن "البيت" منعا لأية شبهات تزعجها وتهز الثقة بين الطالبات.
- اين ذهب كل ما اسستِ في حياتك؟ سألها إبراهيم ذات يوم.
- يدخل بعض الاشخاص حياتك احيانا وهم يضمرون سلب ما تملك!
- هل هذا معقول؟
- هذا واقع. تُحرك نوايا الشر بعض الناس.
- تُحركهم نوايا الشر فقط؟
- والطمع. هذا صحيح تماما. قل اعوذ برب الفلق من شر ما خلق.
- لكنك خسرتِ كل شيء.
- الأهم لم اخسر نفسي، ولم ألجأ حتى للمحاكم لأن تنفيذ القانون غائب في هذا البلد، وزوجي السابق كان في حماية اخيه الذي ينتمي لميليشيا. تزوجت محمود بيضون وهو ربح لا يعرف قيمة راحة البال فيه سواي.
- بهذه البساطة؟
- ليس سهلا ان تبدأ من جديد وبثقة مطلقة بعد خداع جعلك مُفلِسا وحيدا.
- ما هو المهم؟
- ان يعتبر الإنسان كل شيء ظروفا عابرة، لكي يظل جسمه الذي لا يستطيع الحياة بدونه يعمل. ظروفك مهما تأزمت أو طالت إلى زوال، وجسمك وحده حقيقة غير عابرة حتى تموت.
عندما توفت والدة إسماعيل غابت امور من حياته لكنها لم تُمح من وجدانه، منها حنان الام والاهتمام ووجود طعام في الثلاجة وملابس نظيفة دائما في الادراج، ولم يكن والده قبل زواجه الثاني قادرا على تلبية كل هذه الامور الحياتية يوميا، فكان يستعين احيانا بإمرأة تأتي لتنجز تلك الاحتياجات الضروية، لأن اخواته لم يكن قادرات دائما على مساعدته. وقد عادت هذه الامور بعد دخول ملكة الى منزلهم، وكانت عودتها بمثابة عودة أشعة الشمس دائما بعد غياب طويل، كما إنتشر الدفء ايضا لأنها كانت تعاملهم كاولادها تماما.



2


إلتحق إسماعيل بيضون بمدرسة الحكمة الثانوية بالاشرفية، بعد إعادة فتح مناطق بيروت مرة اخرى على بعضها بعضا سنة 1991، وقد دخل مرحلة المراهقة وبدأت طبقات صوته تتغير بينما هو في حالة خوف من ان يفقد جماله، ويتبدد بالتالي حلمه في ان يكون مطربا، وكان يعاني كابوسه الشخصي ولا يصرح به خجلا، لأن طموح امله لم يخرج عمليا عن الغناء في حفلات اعراس اصدقاء اهله ومناسبات المدرسة الاعدادية. سمع مرارا إنه صاحب صوت متميز، بينما اسرته لا تكاد تصدق أنه يمكنه ان يكون محترفا مشهورا، وابوه ينصحه بتأهيل نفسه لدراسة جامعية في الإدارة تؤهله لفتح سوبر ماركت كبير، لأنه إكتسب خبرة المحل الصغير ويعرف معظم مصادر شراء الجملة كافة، فالطرب، كما كان يقول دائما، له أهله الذين يمتلكون الصوت والعلاقات الفنية الاجتماعية والشخصية الوصولية التي تؤهلهم للوصول إلى دائرة الشهرة، وكان يعتقد ان إبنه ليس منهم، ولاحظت ملكة إضطرابه.
- هل انت خائف من امر ما ياعمتي؟ سألته بإسلوبها الودود وبكلمة "عمتي" التي يسمعها منها كلازمة تبدأ بها حديثها معه، ولم يسألها لماذا تقولها له.
- هل تعديني أن يبقى الامر سر بيننا؟ سألها إسماعيل.
- اكيد.
- انا لا شأن لي بدنيا التجارة ولا السوبرماركت أو الدكاكين.
- لكنك ناجح فيها جدا، وابوك يعتمد عليك ويثق فيك.
- لكن حلمي هو الغناء الذي أعيش وانام واستيقظ به، لكني اخاف ان افقد جمال صوتي أو لا أعرف الطريق ولا احقق هدفي.
- هل الغناء هو حلمك؟
- نعم.
- كن على ثقة بأن نهاية تقلبات صوتك بسبب مرحلة عمرك هذه، ستنتهي إلى إضفاء طبقات جديدة عليه. ولا تنسى ان بعض المطربين رجال اعمال، فتسويق الفن أكبر ربحا. يجب ان تعلم كيف تسوّق نفسك.
- هل انت واثقة من ذلك؟ سألها وقد إنشرح قلبه.
- نعم يا عمتي. وهناك سر آخر يجب ان يظل بيننا.
- أعدك. لكن ما هو؟
- هي نبوءة اتمنى ان تتحقق؟
- ما هي؟ سألها بتلهف.
- انا الوحيدة حتى الان التي ترى نورا يشع منك وحضورا رائعا متميزا امام الناس. هذه الامور ستجعلك سيداً على المسرح وامام الكاميرات.
- هل تري هذه الامور فعلا؟ سألها إسماعيل وقد طار صوابه فرحا.
- انا يا عمتي من هواة مشاهدة كرة القدم كما تعلم، وكنت احيانا اذهب إلى الملاعب. بعض اللاعبين لديهم جاذبية مميزة.. هالة حولهم.. إضافة إلى براعتهم في اللعب. بمجرد نزولهم إلى ارض الملعب، تحيط بهم هالة ليست موجودة عند كل من يلعب الكرة.
- هل انت على ثقة من هذا الكلام؟ هل أملك هذه الهالة؟
- يا عمتي! انت صغير، لكن الايام ستعلمك وستثبت لك ما اقوله.
- وكيف رأيتِ هذا التميّز عندي ولم اقف على مسرح. مسرح حقيقي كبير.
- رأيتك على مسرح المدرسة، وهو مسرح على كل حال. لاحظت ذلك وانت تغني للناس.
- ماذا افعل لأصل إلى المسرح الحقيقي؟
- هذا هو السؤال. غنّ في مناسبات المدرسة الثانوية. غّن في المحل وانت لا تبيع. ربما يسمعك احد من هاتين الدائرتين اللتين تتحرك فيهما الان، وانتظر لتتحرك في دائرة أكبر ربما تكون الجامعة!
- هل تعتقدي بجدوى هاتين الدائرتين؟
- هما المتاحتان حتى الان. مرّن صوتك.. إحلم وثق في حلمك. عِش حلمك في داخلك ليتحقق. انا على ثقة بأنني سأصفق لك بين ألوف الناس يوما ما.
- سأجعلك مستشارتي الفنية يا عمتي لو تحقق هذه الحلم.
- بل مديرة اعمالك الفنية.
- أقسم بذلك. قال لها إسماعيل وهو يتأمل عينيها العسليتين اللتين تشعان عزما.
من الاساتذة الذين لفتوا نظر إسماعيل في مدرسة الحكمة الثانوية، امين مكتبتها الذي كان يعلّم اللغة الفرنسية ايضا لصفه الدراسي فقط، حتى لا ينساها مثلما اجاب عن سؤال احدهم. لفت ميشال سعد نظر إسماعيل بعمره الذي تجاوز الثلاثين بقليل والبذلة التي يرتديها دائما، وتتغير ألوانها ونوعية قماشها حسب الفصل، إضافة إلى اناقة الكلمات التي يستعملها، وتواضعه الجم الذي يُطلق عليه تلامذة اجيال حروب لبنان الأهلية العبثية "هَبَل"، بينما كان إسماعيل يراه اخلاقا رفيعة، ولم يعرف تفسير محاولات إقترابه من الاستاذ الذي كان قريبا من الجميع، بعيدا عنهم في الوقت نفسه.
كان الاستاذ ميشال قريبا من الجميع بعمله في المكتبة، وتفانيه في خدمة روادها القلائل، وكان يشرح اللغة الفرنسية ويعلّمها بطريقة عملية تؤهل التلميذ لقراءة كتاب وإستعمالها في الحياة ايضا، وكان يحث تلامذته على الحديث بها، ويسألهم عن امور غير تعليمية قد تكون سياسية أو فنية، ويطلب منهم رأيهم بالفرنسية. وكان في الوقت نفسه بعيدا لأنه بدون اصدقاء في العمل أو مقربين منه، ولا يُصنف داخل أي مجموعة في المدرسة، أو "عصابة" كما كان التلامذة يقولون.
كان ميشال أعزب صاحب وسامة رجولية لا تخطئها العين وأريحية اجتماعية ومودة لم تخلق اعداء حوله. لم يُعرف عنه مطلقا أية ورطة عاطفية مع تلميذة أو معلمة، وإن كان صاحب حظوة عند النساء داخل وخارج المدرسة، وأشاعت بعض همسات المعلمات بعشيقة له، قيل إنها ارملة موظفة وغنية ولها ابن وحيد يعيش في فرنسا. كانت الهمسات صحيحة وقد توثقت علاقة العشق بينهما وإقتنعا بها حتى لا يكونا موظفيّن ممليّن في مؤسسة الزواج، كما باحا لبعضهما بعضا بعد توّثق علاقتهما.
المؤكد ان ميشال سعد قد قرأ ملامح إعجاب تلميذه إسماعيل بيضون به منذ بداية التحاقه بالمدرسة، التي كان وجوده فيها مثيرا، بعد إنتهاء معارك الحرب الاهلية اللبنانية سنة 1990 وتولي الرئيس إلياس الهرواي الحكم، لأنه كان من اوائل التلامذة المسلمين الذين وفدوا إلى "الحِكمة" بالاشرفية، وكان ميشال يلاحظ ميول تلميذه الفنية ويعتقد إنها مجرد هواية، إلى ان قربتهما صدفة حديث تلفوني سمعه في المكتبة بين ميشال وأحدهم شجّعه ان يقترب من استاذه أكثر.
- انت تعزف آلة الاكورديون كما فهمت من حديثك. قال إسماعيل.
- نعم. وكان المتحدث معي هو الذي يصلحها.
- هل انت عازف محترف؟ سأله إسماعيل.
- لكنني اعزف فقط وراء مطربين معدودين في تسجيلات الاستوديو وليس الحفلات.
- لماذا؟
- وقتي لا يسمح بالتدريبات الكثيرة من أجل الحفلات وحضورها.
- هل تستطيع ان تعرف المطرب الناجح؟ سأله إسماعيل وهو في أشد التلهف من إحتمال معرفة الاستاذ لبعض من يستطيعون مساعدته.
- أعلم ان لديك صوت جميل يحتاج لتدريب وتمرين، لكن يجب ان تفهم ان أي مطرب اعرفه لن يساعدك، وأي ملحن لن يعطيك لحنا لأنك غير قادر على دفع ثمنه.
- هذا صحيح. بنزنس. وانا غير مشهور. لكن كيف ادخل هذه المجال؟ سأله إسماعيل بتلهف.
- رغم كونك مسلما، إلاّ ان تدريب صوتك مع كورس الكنيسة سيساعد الاوتار الجيدة الموجودة عندك على الغناء بجميع الطبقات.
- هل تريد مني الترتيل في الكنيسة؟
- ما أقوله لك ليس تبشيرا. سأتحدث معهم ولن ينزعجوا. هل هذا الامر سيزعجك؟
- ابدا.
- حسنا. رتّل معهم فقط ولا تؤمن بما يؤمنون! قال الاستاذ بموضوعية تامة.
- وهل سيقتنع افراد الكورس والكاهن بما تقوله لي؟
- هل انت مقتنع بما اقوله اولا؟
- نعم.
- دع إقناعهم عليّ. يجب ان تخرج على الناس مؤهلا حتى لا تنطفىء.
- وكيف اخرج إلى الناس؟
- أهّل نفسك اولا ولا تضع العربة امام الحصان. لا تعبر الجسر قبل وصوله. ستجد طريقك أو سيجدك الطريق لأنك صاحب عزم.
- انا اعزف الأكورديون كهواية. لا اقرأ النوتة.
- هل تريد ان تعزفه بإحتراف؟
- هذا حلم آخر من احلام عمري.
- لن يفيدك إذا اردت ان تكون مطربا.
- افهم ما تقوله، لكنني اريد ان اعزف الأكورديون بإحتراف. احب هذه الآلة.
- هل تستطيع تنفيذ جدول تدريبات غير منتظم؟
- نعم، يمكنني تبديل الايام التي اساعد فيها الوالد في دكانه.
نال إسماعيل إعجاب استاذه لمثابرته وكفاحه واحلامه، ولم يندم ميشال على التدريبات المجانية التي كان يمنحها لتلميذه مرة أو مرتين اسبوعيا حسب وقت فراغه، كما إندهش إسماعيل من سرعة تقربه من إنسان يُعرف عنه أنه بعيد عن الجميع، وكان ممتناً إلى أقصى تقدير من عرضه لتعليمه فن العزف وكيفية قراءة النوتة.
رغم عمر إسماعيل الذي تجاوز السادسة عشرة بقليل، دخل منزل ميشال سعد في الاشرفية، وأحس ان بيته ليس كمنزلهم ويستحيل ان تعيش فيه اسرة. كان الداخل إلى بيته يرى نفسه في مرآة مستطيلة كبيرة تعكس صورته على المدخل، بجوارها منصة خشبية أثرية لتعليق الثياب ووضع شماسي، وعلى يسار المدخل تقع غرفة جلوس كبيرة ايضا، فيها مكتبة تصل إلى السقف على احد جدرانها، ويغطي معظم الجدران الاخرى لوحات زيتية من الطراز الكلاسيكي، يغلب عليها مشاهد من الطبيعة والبحر والبيوت الجبلية، إضافة إلى بضع صور زيتية لصاحب البيت في مراحل مختلفة من عمره، إحداها موجودة على حامل. اجزاء غرفة الطعام ليست بالمعنى المتعارف عليه، لأنها مصممة لتكون بارا حوله عدة كراسي بنية داكنة طويلة، وطاولة أكل صغيرة جدا بجوار الشرفة، ولفت نظره وجود خمور غالية لم يرها في السوق موجودة على رفوف داخل برميل خشبي رائع. وهناك ردهة طويل تنتهي بالمطبخ ودورة مياه بجواره، وفي منتصف الردهة تقع غرفتين اخرتين، احداهما غرفة النوم، اما الأخرى فهي مجهزة بجدران عازلة للصوت وجهاز تسجيل لمحترفين، ومئات من اشرطة التسجيل على رفوف، وعدة آلات اوكورديون وكاميرات تصوير لم يرها إسماعيل من قبل، وعرف من الاستاذ انه من هواة التصوير السينمائي ايضا، وان الكاميرات إشتراها من فرنسا التي يزورها سنويا تقريبا.
- على فكرة ان لست غنيا لأملك هذا البيت في الاشرفية. خالتي وزوجها هاجرا إلى استراليا ولم يجدا من يشتريه منهما نقدا، فتركه زوجها لي لأعيش فيه خوفا من احتلاله بواسطة احد عناصر المليشيات، على امل ان يبيعه في يوم ما.
- لكنك ما زلت هنا..
- بدأ زوج خالتي عملا تجاريا في استراليا وواضح انه لا يحتاج لنقود هذه المنزل. مسألة حظ لا أكثر أو أقل كما ترى، لذلك جهزت غرفة الموسيقى لتكون مثل ستوديو صغير لأنني لا اريد الزواج.
- واين يعيش والداك؟
- امي تعيش في اللويزة بكسروان وابي توفى.
كان ميشال سعد من هواة شرب القهوة، التي يصنعها بنفسه لضيوفه لعدم وجود زوجة في المنزل، وكان إسماعيل يقف بجواره في المطبخ وهما يثرثران في إنتظار ان تغلي القهوة، وبعد ذلك كانا يتجهان لشربها في فنجانين خشبيين اثريين إشتراهما ميشال مع طاقم مكون من ستة فناجين، في غرفة الجلوس ثم كانا يذهبان إلى الغرفة مزدوجة الجدران للعزف، وكان الذهاب للتعلم يوما إحتفاليا عند إسماعيل، الذي كان يتعامل ميشال معه وكأنه في مثل عمره، ولم يجعله مطلقا يشعر أنه شاب صغير امامه، ولم يكن يسأله أية اسئلة شخصية فيها تفاصيل عن عائلته، الامر الذي جعل إسماعيل يدرك ان الاستاذ لا يحب ان يتدخل أحد في خصوصياته، وهو الامر الوحيد المؤكد عنه بين التلامذة والعاملين في المدرسة ايضا.
- هناك مقطوعة موسيقية إسمها "موال الهوى"، إذا استطعت إتقان عزفها على الاوكوديون، ستدخل في نطاق المحترفين وليس الهواة. قال له ميشال سعد بعد عدة دروس موسيقية.
- موال الهوى" فقط؟
- من وجهة نظري.
وضع إسماعيل بيضون إجادة قراءة النوتة والعزف نصب عينيه، وكان يغني بأمل مثلما نصحته "عمتي"، وبعد عدة شهور من الترتيل، توصل فجأة إلى أنه من الأفضل ان يتجه للغناء الطربي، وليس الغناء الخفيف، رغم صعوبة وخطورة إختيار الطرب، لأن الناس اصبحوا يميلون للغناء الخفيف، وكان يختار بعض اغاني الطرب الاصيل ليتمرن عليها، وقد نصحه ميشال سعد ان يغنيها بطريقته لا بطريقة المطرب الذي غناها، وعندما إستفسر منه عن معنى الغناء بطريقته، نصحه بعدم سماع المطرب الاصلي في مخيلته وهو يغني، بل الغناء على اللحن فقط.
لم يصدق احد من اسرة محمود بيضون ان شابا رقيق المشاعر، يمكن ان يقع في حب إبنتهم "العقربة"، كما كانت تناديها المرحومة امها، وقد تعليق محمود بيضون لبقية أسرته همسا بعد ذهاب الشاب الذي جاء إلى منزلهم خطيبا مع والديه، بأنه صدّق ان الحب أعمى وأصم ايضا بعد الذي حدث عصر ذلك اليوم، وكانت سعادته هي الأكبر بين الجميع، لأنه لم يتوقع لها ان تتزوج بعد شهور قليلة من خطوبتها، وكان يرجّح بقاءها عانسا في المنزل معه، بينما كانت مشاعر ملكة محايدة، ولم تقل سوى ما يعبّر عن مناسبة زواج إبنة زوجها.
كان عرس سوسن تجربة مهمة لإسماعيل الذي عزف وراء الراقصة في الفرقة الموسيقية التي صاحبتها في قاعة الفندق الذي تزوجت فيه اخته، كما غنى اغنية طربية اختارها ونصحه بغنائها ميشال سعد الذي حضر حفل العرس، ونال غناؤه إستحسان الحاضرين، في الوقت الذي لم تبتعد نظرات عينيّ ملكة عنه، ولم تغب إبتسامتها وهي تستمع له، وكان هو في حقيقة الامر يغني لها في هذه الليلة، والامل يغمر قلبه في ان يكون مطربا مشهورا كما تنبأت له.
- لم تصفقي لي مع الحاضرين. قال إسماعيل لملكة هامسا بعد إنتهاء اغنيته.
- وعدتك يا عمتي ان اصفق لك بين مئات الناس. سيأتي هذه اليوم ولا تقلق فقد تأكدت فعلا من حضوره.
- اتمنى ذلك يامديرة اعمالي.
لم يفهم إسماعيل سبب إحساسه بأمر غامض غير مفسّر وهو ينظر إلى احد الداخلين إلى دكان ابيه بعد ظهر يوم جمعة. لم يكن الشاب من زبائن المحل، ولا يتذكر إسماعيل أنه رآه زبونا عابرا يأتي كل بضعة اسابيع مثل بعض الزبائن، خصوصا سائقي تاكسيات الاجرة، وبعض الزوار الذين يأتون إلى الحي لزيارة اقاربهم، وصدق حدس إسماعيل لأن الشاب دخل بغير نية الشراء كما فهم من اول عبارة قالها له.
- كنت في زيارة شركة إعلانات عصام بيهم، فسمعت صوتا يغني، وحين سألت احدهم اخذني إلى الشرفة وأشار إلى دكانك.
- الدكان لأبي. هل اعجبك صوتي؟
- تملك صوتا مميزا فعلا ليس لائقا ان يظل يغني لرفوف المحل وثلاجاته. ماذا تفعل في الحياة؟
- انا في الصف الثاني الجامعي ادرس الاعمال.
- ملامح وجهك تقول انك أصغر عمرا، أليس كذلك؟
- قال لي بعض الناس الملاحظة نفسها.
- قال لي فادي ان إسمك إسماعيل ولذلك لم اسألك عنه. إسمي إميل الريس.
- أعرف فادي الذي يعمل في شركة الاعلانات وهو زبون دائم. ماذا تعمل يا إميل؟
- انا مدير إعلانات مجلة نسائية.
- ماذا؟ أي مجلة؟ سأله إسماعيل وهو يكاد يطير فرحا لأنه وجد شخصا يعمل في الاعلام اخيرا.
- "آخر موضة". هل تحب ان تغني في مكان عام يا إسماعيل؟
- تسألني هل احب؟ انا انام واعيش على هذا الحب. لكن ما هو هذا المكان؟ سأله إسماعيل وقلبه يخفق بشدة.
- هل سمعت بمنتجع "عرزال الباشا" في جونيه.
- نعم. وسبحت فيه مرة مع اصدقاء.
- صاحبه صديقي، ويمكنني إقناعه ان تغني في صالة المطعم الكبير يوم السبت القادم ليلا إذا كانت ظروفك تسمح. أو السبت الذي يليه.
- ظروفي تسمح لكن لا املك سيارة للذهاب والعودة ليلا.
- سأذهب واعود بك. لا تقلق. هذه بطاقة عملي، خذها لأنني سأتصل بك هاتفيا هذا الاسبوع. ما رقم التلفون هنا؟ هل لديك هاتف في المنزل؟
كتب إميل الريس رقم هاتف منزل ودكان محمود بيضون على ظهر إحدى بطاقاته، وخرج من المحل بين الزبائن الذين ينتظرون إنتهاء حديثه، تاركا إسماعيل تحت صدمة ان ما حدث كان حلما، لكن البطاقة التي كانت بين انامله تؤكد ان ما حدث كان واقعا، وعندما روى لملكة ما حدث له ظهر ذلك اليوم، وسألها لماذا فعل إميل تلك الخطوة، نصحته بأن يتبع قدره من كل قلبه وعقله ولا يُكثر من الاسئلة حتى لا تتبخر الامال، ومن الامور التي تفاءل إسماعيل بها كثيرا، ان ملكة ايضا اخبرته بأن إميل الريس إتصل به مساء الاثنين، ليقول ان صاحب المنتجع يريد ان يراه قبل غنائه ليلة السبت.
- هل تلاحظ مسارات قدرك؟ سألت ملكة إسماعيل. الهواة عادةً هم من يتصلون بهؤلاء الناس ويلهثون وراءهم وليس العكس.
ذهب إميل وإسماعيل مساء الاربعاء إلى "عرزال الباشا" ورغم ان إسماعيل كان سعيدا للغاية بما يحدث من حوله فعلا، كان الوجوم باديا عليه، وبدا شاردا وهو يدخل مكتب صاحب المنتجع.
- صديقي رجل الاعمال انطوان عزيز. قال إميل لإسماعيل وهو يقدمه إلى صاحب "العرزال" الجالس خلف مكتبه.
- انا متفائل برؤيتك يا سيد أنطوان. قال إسماعيل بعفوية وهو يصافح الرجل.
- وانا ايضا. هل أخبرته حكاية عودتي إلى مجلتك كمعلن يا إميل؟ سأل أنطوان عزيز وهو يتأمل ملامح إسماعيل.
- نعم. كنت لا تحب التعامل مع مجلتنا بسبب مدير اعلاناتها السابق.
- مرحبا إسماعيل، تفضل بالجلوس. ماذا تنوي ان تكون في المستقبل؟ سأله أنطوان عزيز بعد ان جلس الجميع.
- ابي يريد ان اكمل دراسة الاعمال لتأهيل نفسي لامتلاك سوبر ماركت.
- سأكون من زبائنك الدائمين. لكنك تريد ان تغني حسب ما قال إميل.
- هذا صحيح.
- ماذا ستغني السبت القادم هنا؟
- هل تريد ان تسمع صوتي الان؟
- انا على ثقة في كلام إميل، إضافة لصوتك الرخيم اثناء الحديث والطلة الجميلة التي تملكها.
- سأغني "بفكّر في ألّي ناسيني".
- هل تريد التوجه للغناء الطربي مستقبلا؟
- نعم. قالها إسماعيل وهو يحاول تخيّل مستقبله.
- الفرقة الموسيقية هنا قادرة على عزف هذه الاغنية، لكن إنتبه لأن بعض اغاني عبد الوهاب لا تصلح للغناء على المسرح.
- كيف؟
- هو نفسه فشل جماهيريا عندما غني " الكرنك" أو "الجندول"، لا اتذكر حقيقة أية أغنية، امام المشاهدين على المسرح.
- رغم ان اغانيه جميعا من أرشيف الغناء العربي.
- الغناء العربي المهم، لكن الغناء في حفل شيء آخر، والمطعم وإن كان مسرحا في الوقت نفسه أخطر. انت ستغني لجمهور يأكل ويشرب!
- ماذا تعني؟
- نجاحك كمبتدىء هو ان تجعلهم يتوقفون على الأقل عن الاكل وانت تغني ليستمعوا اليك.
- سأغني "بفكّر في ألّي ناسيني" بطريقتي.
- كيف؟ سأله أنطوان عزيز وهو يبتسم.
- سأغنيها بأداء فيه امل في شيء مرجو.. وسخرية من الواقع اللامعقول، رغم أنها اغنية توحي بالحزن.
- اتمنى لك التوفيق. قال أنطوان عزيز وهو يقترب بوجهه أكثر من إسماعيل الجالس عن يمينه في الجهة اليمنى امام المكتب.
- اشكرك من صميم قلبي على تقديم هذه الفرصة الكبيرة لي.
جلس إسماعيل وإميل إلى طاولة أنطوان عزيز الذي كان حاضرا بنفسه ليلة السبت، وعرفا منه أن إسماعيل سيغني عند منتصف الليل تقريبا، ولم يأكل إسماعيل أي طعام وإكتفى بكوب ماء وضعه امامه، إرتشف منه بعض قطرات احيانا، وعندما أعلن مقدم السهرة عن فقرة غناء المطرب الصاعد جلال غندور، شعر إسماعيل بأنامل عزيز تربت على كتفه، وطلب منه التوجه للمسرح وهو يبتسم له.
- هل جاء دوري في الغناء؟! سأله إسماعيل مندهشا.
- هل سمعت بمطرب إسمه إسماعيل أو إسماعيل بيضون من قبل؟ همس أنطوان وهو يبتسم ويغمز له بعينه اليسرى.
توجه جلال غندور إلى المسرح وقلبه يكاد ان يتوقف، لكنه إستعاد توازنه تماما بمجرد ان وقف امام الناس، وبدأ يغني بعد ان عزفت الفرقة مقدمة الاغنية المتفق ان يغنيها، وبعد ان غنّى أول كوبليه، لمح إميل صديقه الجالس بجواره يهز رأسه بطريقة فيها إستحسان للصوت الذي يسمعه يغني لأول مرة، ويطيل التأمل في الواقف بثبات امام الناس، الذين بدأ عدد كبير منهم يتوقفون تماما عن الاكل بعد حوالي دقيقة من الغناء، ويتابعون بأعنقاء مشرئبة المطرب الذي لم يسمع احد به من قبل، وعندما وصل جلال غندور إلى المقطع الذي يقول:
"بحبك ياقاسي، وأحب إنشغالي
عليك، وعهدك على القلب غالي
ومهما الليالي عذابها شجاني
إنت ألي عندي حبيب الليالي"
لمح إميل الرّيس إمرأة تجلس، مع زوجين خمسينيين في مثل عمرها، وقد وضعت يدها على خدها وبدت غائبة تماما عن كل ما حولها، ما عدا عالمها الداخلي الذي غرقت فيه، وانتبه أنطوان عزيز إلى ان عازفيّ الدفوف والطبّال قد ادركوا الروح التي يغني غندور بها، فغيروا ريتم ادائهم إلى إيقاع مرح راقص، دفع فتاة حنطية طويلة إلى النهوض والذهاب للرقص امام غندور، الذي أعاد غناء هذا المقطع عدة مرات بثقة أكبر واداء أكثر فرحا، وإنسجاما مع عازفيّ الدفوف والطبّال، أشعل حماس الموجودين، ونال التصفيق والتهليل وقوفا من بعض الناس، خصوصا الجالسين إلى الطاولات الاولى الذين يستمعون له مباشرة بدون ميكروفونات، ما جعل بعض الفتيات يشاركن الفتاة الحنطية الرقص، ودفع أنطوان عزيز إلى ان يبتسم للجالسين حوله، ويخص إميل بضحكة كبيرة، ويهز قبضته اليمنى بفرح.
رقد جلال غندور على سريره بعد عودته من العرزال ولم ينم ليلته حتى الصباح كما هي العادة، واستعاد عدة مرات مشهد دخول إميل الريس إلى محل البقالة، وهو لا يكاد يصدق ان هذه الصدفة أوصلته إلى بداية ربما تكون طريق تحقيق حلمه. كما استعاد كثيرا مشهد غنائه امام الناس الذي مّر كبرهة وردية فائقة العذوبة، تلك البرهة التي أدرك فيها ان كل أمر يُمكن أن يُحسب له أو عليه مهما كان صغيرا، فالوقوف امام العيون يجب ان يكون محسوبا بدقة ويجب ان يتدرب عليه تماما مثل الغناء، لكي ينتقل إلى القلوب. أحس جلال في لحظة إنه لم يكن كاملا كما يجب ان يكون، وإندهش لأن إميل الريس استحسن كل ما فعله على المسرح ولم يوجه له أية ملاحظة.
- إلى النجومية إن شاء الله، قال له إميل الريس قبل ان يدير محرك سيارته في طريق العودة.
- اتمنى ان يصدق كلامك.
- اعجبت فعلا بذكائك الفني.
- كيف؟
- لأنك تحاشيت نهاية اغنية عبد الوهاب الحزينة، واسترسلت قبلها بصوتك فقط بموال لبناني حماسي، بعد ان طلبت من العازفين التوقف باشارة صغيرة جدا، لتختم طلتك على الحاضرين، الذين صفقوا لك كثيرا لأن مزاجهم كان سعيدا.
إلتقى جلال غندور أنطوان عزيز مساء الاربعاء التالي بعدما غنى في "العرزال"، بحضور صديقه إميل، وكان عزيز عمليا في هذا اللقاء لأنه قدم عرض مباشرا لجلال ليغني مساء كل سبت في القاعة الكبيرة داخل المنتجع.
- على فكرة، من صاحب إسمي الفني؟ سأل جلال.
- انا. قال أنطوان.
- ما الذي أوحى لك بهذا الاسم؟
- هل اعجبك؟
- جدا.
- جلال، لأنك اتيت إلى هنا اول مرة وملامحك جدية وقورة للغاية لا تناسب عمرك ولا وظيفة الطرب، وغندور على وزن بيضون، وهو أجمل فنيا.
- لا يمكن ان انسى مهما بلغت من شهرة، الصدفة التي جمعتني بإميل، ولا الفرصة التي قدمتها انت حتى بدون ان تسمعني.
- معظمكم يقول هذا الكلام حتى ظهور اول "سي دي" يُباع لهم في الاسواق، وهي مرحلة لا احد يعلم كم تطول. هل تريد الغناء هنا ياجلال كل ليلة سبت إسبوعيا؟
- فرصة لا يمكن ان ارفضها.
- ستبدأ بالغناء حوالي ربع ساعة فقط، كما فعلت السبت الماضي، وأجرك سيكون 75 دولار اسبوعيا، حتى ارى تجاوب الناس، ومن ثمة يرتفع السعر وتمُدد فترة غنائك.
- وكيف ستعرف تجاوب الناس؟
- تقصد غير تصفيق السُكارى؟
- نعم.
- إذا طلبوك لتغني في حفلات الاعراس التي تقام هنا، أو سأل عنك الذين يحجزون مسبقا موائد للعشاء ليلة السبت، إضافة الى استحسان الجمهور المباشر وهو امر في غاية الاهمية.
- هل هذا يرفع قيمتي فنيا؟
- وماليا. لأنك ستدخل السوق ولا تكون مجرد هاو على الهامش.
- حسب خبرتك في هذا المجال، هل هذه بداية مناسبة لي؟
- من الممكن ان اقول لك إذهب إلى فلان بتوصية مني. يأتي إعلاميون ومشايخ بترول واصحاب فضائيات وصحف ومتعهدو حفلات إلى "العرزال". من الأفضل ان يسأل عنك فلان أو احدهم بعد ان يعرفك الناس، بدلا من ان تقف على ابوابهم. خطة نجاح الانسان هي مَن يعرف وما يملك.
- لم افهم. قال جلال.
- مَن تعرف ياجلال يجعلك تحصل على فرصة عمل، وما تملكه يجعلك تستمر في النجاح.
- الحق مع مستر عزيز. قال إميل.
- متى يمكن ان يبدأ العقد؟
- هل السبت القادم يناسبك؟
- إمهلني شهرا لأتدبر اموري.
- لماذا وانت متحمس؟
- احضر مع إميل بسيارته هنا ومن غير المعقول ان...
- هل عندك رخصة قيادة؟
- لا.
- هل تعرف كيف تقود سيارة؟
- نعم.
- إحصل على رخصة قيادة ودع امر السيارة، لأن إبنتي لديها واحدة قديمة لا تستعملها. خذها وقدها فنحن نعيش في بلد لا وجود للشرطة فيه، والرخصة مجرد وثيقة لشركة التأمين حين تصير حوادث.
- نحن لسنا فقراء لهذه الدرجة!
- هل ترفض الهدية؟
- مطلقا.




3



ظهر أنطوان عزيز في المجتمع اللبناني كصاحب منتجع في بدايات ثمانينات القرن العشرين في لبنان، لأنه ذهب إلى افريقيا فقيرا مجهولا وعاد غنيا معروفا في دنيا الاعمال، بعدما عمل مع خاله المليونير موظفا في تجارة السكر في بلد أفريقي أكثر من خمس عشرة سنة، وكان في الوقت نفسه يعمل احيانا ايام العطلات في مطعم كبير ليلا، لأنه كان يحلم دائما ان يكون صاحب مطعم كبير يقدم الوجبات الشرقية، وكان عمله مع خاله بمثابة مورد مال محترم وخبرة في الادارة، وقد نال ثقة خاله المُطلقَة بعد سنوات ما أهلّه ليحل محله بتفويض منه، في بعض الصفقات التي تتم من وراء ظهر الحكومات للتهرب من الضرائب، وكان التعامل فيها يتم نقدا وليس بالتحويلات أو الاعتمادات المصرفية، وكان يلامس اربعينات عمره عندما خطط ببراعة لإختلاس ثمن شحنة سفينة سكر من خاله، الذي لن يتضرر كثيرا من هذه السرقة حسبما رأى، بينما هو سيفني سنين حياته إذا عاش موظفا بدون ان يصل إلى امله المنشود، الذي أصبح بناء منتجع سياحي مثل المنتجعات التي رآها في إسبانيا، بعدما تجاوز فكرة إنشاء مطعم، لكنه قرر ان يؤسس مشروعه في لبنان بعيدا عن خاله وانتقامه ودوائر نفوذه الافريقية.
من الامور التي ظلت غير مفسرة لوقت طويل ان خال أنطوان عزيز لم يحاول الاتصال به بعد ان اختلس ماله، كما ان احدا من العائلة لم يُلمّح بهذه السرقة إلى عزيز، حتى امه التي كان يسألها احيانا عن خاله، وكان جوابها ان اخاها عاتب عليه لأنه لم يعد حتى يتصل به هاتفيا بعدما اصبح يملك المال، الذي شكّل علامة استفهام كبيرة لمعظم من حوله، ولم يرد هو عليها سوى بعبارة واحدة ان حياة الناس اسرار وهو لن يفشي سره.
- هل هذا كل ما قاله لكِ؟ سأل انطوان امه ذات مرة.
- نعم. هو رجل اعمال لا وقت لديه على أية حال، وواضح ان عتابه عليك لأنه تعامل معك كأنك إبنه وليس ابن اخته؟ على فكرة لماذا لا تتصل به؟
- لأنني أشعر بذنب. كان يريدني أن ابقى معه، لكني فضلّت ان ابدأ مشروعا جديدا هنا بعيدا عنه.
- هل كان اخي سبب البحبوحة التي انت فيها؟
- نعم. ساعدني كثيرا.
- لا تكن جاحدا واتصل به فلن يعتب عليك.
فوجىء انطوان عزيز يوما بعد أكثر من سنتين من هروبه بالمال من افريقيا، وعقب بدء العمل بشهور قليلة في منتجعه بسكرتيرته تقول له على خط هاتفه الداخلي ان رجلا إسمه يوسف الحلو يريد ان يقابله.
- يريد ان يراني أو يتحدث معي على الهاتف؟! سألها عزيز وهو في غاية الارتباك.
- الرجل يجلس هنا امامي.
- دعيه يدخل فورا.
دخل يوسف الحلو مبتمسا إلى مكتب إبن اخته، الذي كان في الوقت نفسه يعتذر من مدير دائرة المحاسبة عن تأجيل الاجتماع معه فجأة، ليستقبل خاله القادم من افريقيا، وجلس يوسف بعدما رحب انطوان عزيز به بارتباك واضح وحرارة مبالغ فيها، ثم تهاوى عزيز على الكرسي المقابل وليس وراء مكتبه.
- مبروك. قال يوسف لإبن اخته وهو يبتسم ابتسامة كبيرة.
- شكرا. هل تود ان تشرب شيئا؟
- كوب ماء معدني فقط.
- طبعا .. طبعا. قال أنطوان وهو يتلعثم ويطلب زجاجة مياه معدنية على الهاتف.
- اكيد انت لا تجد جوابا حتى الان لصمتي على ما فعلته. قال يوسف بهدوء شديد بعد لحظات صمت.
- نعم.
- وانا ممتن لصمتك المطبق على ما حدث!
- كنت مضطرا.
- هل تشعر بالاسف؟
- لكي اكون صريحا معك، يجب ان اقول لا أشعر بالاسف لكن بالخجل.
- لأنني مليونير ومليون دولار لن يؤثروا عليَّ أو على ثروتي كما تعتقد.
- صحيح يا خالي. لا استطيع ان اكذب عليك.
- انت لم تكن بعيدا تماما عن نظري كما كنت تعتقد طوال السنتين الماضيتين.
- كيف؟
- هذه وسائلي الخاصة. اندهشت من عودتك إلى لبنان، واعتقدت انك ستذهب إلى جزر الكاريبي أو غيرها لتؤسس مثل هذا المشروع.
- اعرف هذا البلد، ولا استطيع ان ابدأ بمثل هذا المال في بلد آخر.
- تفكير معقول.
- لكنك لم تقل لأي إنسان ولا حتى اختك ما حدث!
- لو قلت لأختي سيعلم كثيرون وانا لا اريد ذلك.
- لماذا لم تحاول حتى استعادة مالك مني؟
- لأنني عرفت انك ستبدأ هذا المشروع. انت استثمرت مالي ولم تهدره. لو بدأت تبذيره لكنت حصلت عليه أو معظمه مرة اخرى بوسائلي الخاصة.
- انت أذكى وأكثر حكمة مما تصورت فعلا. قال أنطوان عزيز وهو يشعر براحة تامة تسري في دمه ومفاصله.
- صحيح ان هذا الفندق ملكك، لكنه لي بشكل ما.
- كيف؟!
- لا تضطرب. لم آت لأسترد مالي مُستثمرا الآن. الانتقام ليس مهنتي بل البزنس.
- لماذا جئت؟!
- جئت لأهنئهك ولو متأخرا، وأقول لك حقيقة تود من صميم قلبك ان تعرفها. انا أعلم ذلك تماما.
- تهنئني لأنني سرقتك؟!
- ما فعلته في البداية كان سرقة، لكن لاحقا انت استثمرت مالي في مشروع لم احلم به شخصيا. منتجع ناجح كما سمعت وبدا لي. وسواء الان أو في المستقبل ستتعاون معي. ربما في امور اخرى. لم يخرج المال من ثمة عن نطاق العائلة، ولم تؤذ سرقته احدا. هل عليك ديون أو ان المال كان كافيا لكل شيء؟
- الديون تُسدد في موعدها. لا مشاكل مالية. انت رجل عظيم يا خالي.
- وانت محترف بزنس فعلا لأنك استطعت بناء هذا المكان وانت لست على خريطة العائلات التي تملك مؤسسات لبنان وتجاراته.
- ملاحظة ثاقبة رغم انك لا تعيش في هذا البلد.
- قوانين الكبار والبزنس هي نفسها في كل مكان.
- لغة واحدة رغم اختلاف الابجديات.
- حافظ على ما معك واستثمره بشكل جيد. يمكنك ان تتصل بي الان من حين لآخر! ربما يحتاج احدنا الآخر يوما ما. قال يوسف الحلو لأنطوان قبل ان يرفع زجاج باب سيارته وينطلق بها إلى خارج المنتجع.
- ساعدتني مرة اخرى على فتح صفحة جديدة في حياتي الشخصية.
- ويمكن ان أساعدك لو كنت بحاجة لعمل أي إضافات لهذا المكان. ديون هذه المرة. قال يوسف الحلو وهو يضحك.
- مع فوائدها. شكرا ياخالي سأفكر في الامر.
- إنتبه على نفسك فهذا البلد ليس سهلا.
- أعلم ذلك تماما.
غادر يوسف الحلو منتجع عرزال الباشا وابن اخته يصاحبه حتى وصل إلى سيارته في الموقف، لأنه أصّر على عدم إعطاء مفتاحها لأي احد ليحضرها، لكنه ترك أمريّن لم تستطع الظروف ان تنزعهما من نفس أنطوان عزيز، وهما عدم التسرع في الحكم على أي أمر مهما بدت الامور واضحة، والاستجابة لمن يدق على بابه طالبا مساعدة يستحقها.
لم يعرف احد غير ملكة في البداية بأمر غناء إسماعيل ليلة السبت، لأنه كان يخشى عدم تصديق المقربين منه، وبرر غيابه عن المنزل تلك الليلة بحضور عرس اخت صديق له في المدرسة، كما انه لم يحلم بالعرض الذي تلقاه من أنطوان عزيز، ولم يجد عقله المنفعل وقلبه الذي لا يستطيع تحمل الخبر منفردا سوى ملكة، لتشرح الامر لأبيه.
- هذه فرصة ذهبية لا تعوض. قال محمود بيضون لإبنه.
- هل هذا رأيك؟
- رأيي وطموحك وحلمك.
- انا في منتهى السعادة.
- لماذا لم تقل لي؟
- خفت من إعتراضك سخريةً على ذهابي بالطريقة التي حدثت، ولا اكاد اصدقها انا نفسي. ولا اعرف حقيقة كيف يمكن ان اساعدك في المحل لو سارت اموري بشكل حسن.
- ستبقى يا إسماعيل في الجامعة ولا تفكر كثيرا بالمحل لو سارت امورك للأفضل.
- هل هذا شرطك للغناء؟
- نعم. الدنيا لا امان لها، وانت في بداية طريق لاتعرفه.
- حتى لو حققت نجاحا.
- ستدرك انت متى تتوقف عن التعلم، لكن حتى ذلك الحين من الأفضل ان تتمسك بالعلم. ورأيي الشخصي هو ان تحصل على شهادة علمية مهما كانت ظروفك.
سلك محمود بيضون طريق والد منفتح مع إبنه عاشق الفن والغناء، رغم امله ان يؤسس إبنه سوبر ماركت بعدما يكتسب خبرة السوق والتعامل مع الزبائن ومصادر الانتاج، لأنه يرى المستقبل للمحلات الكبيرة. لم يكن يتوقع مطلقا، حتى عندما كان يسمع إشادة الناس بصوت إسماعيل، ان يسمع منه ما قاله عن فرصة غناء في أحد أكبر منتجعات جونيه السياحية. ولأول مرة ادرك ما كان يفعله إسماعيل منذ بداية مرحلة مراهقته، عندما كان يستمع إلى إذاعة الكويت الوطنية، التي كانت تخصص ساعة قبل منتصف ليل بيروت كل ليلة لأحد مطربي الغناء العربي التقليدي، ويردد اغاني مطربين يؤدون الطابع نفسه في العالم العربي، ويقرأ كتبا عن الاغاني ويطالع المجلات الفنية التي كانت معروضة عندهم في الدكان بشغف، بعد ان طلب من موزع الصحف وضع حامل للمطبوعات داخل الدكان، ويغني في الاوقات التي لا يبيع فيها، وفي حفلات المدرسة. كان محمود بيضون يعتقد ان الامر هواية طفل ثم مراهق ليس إلاّ.
- كلام أنطوان عزيز صحيح تماما. قال ميشال سعد.
- كيف؟
- كان يمكن ان تظهر في احد برامج التلفزيون التي تسوِّق المواهب، ويحتكر احدهم صوتك بعد نجاحك في السباق.
- هذه طريقة سريعة ورائعة.
- صحيح. لكن بعد إنتشارك من عرزال الباشا، ستكون ظروف تفاوضك لأي عقد أفضل، وانت في موقع أقوى، يُمكنّك من فرض شروطك وليس فقط قبول شروط غيرك. هناك أمور كثيرة تحدث وراء الكواليس قد لا يرضى المشهورون أنفسهم عنها لكنهم يقبلونها. هذه مهنة صعبة للغاية.
- انا على يقين من الانتشار.
- روح معنوية طيبة ومطلوبة من مطرب صاعد مثلك، لكن الافخاخ ستُنصب لك. كن على حذر خصوصا من الذين سيقترحون عليك ان تكون منتشيا لتؤدي أفضل. هذا طريق هلاكك في مهنة تشبه رمال متحركة.
- هل انت مقتنع بإختيار زوجة ابي مديرة اعمالي؟
- لا مكتب خاصا بك هذه الفترة ولا حياة مستقلة. انت وعدتها ومتمسك بوعدك وهي مديرة اعمال ذات خبرة كما قلت لي، إضافة إلى استحالة عدم اذيتها لك. مديرة اعمال مجانية ستتعلم معك، وتكبران سويا.
- هل ترى ذلك؟
- هي تعويذة حظك ايضا. هل مازلت بحاجة إلى دروس عزف اخرى؟
- مازلت غير قادر ماليا على بناء حائط مزدوج! وأنت ستظل "الاستاذ" مدى الحياة. هل تعتقد انني اعزف "موال الهوى" بإتقان؟ سأله إسماعيل وهو يضحك.
- العزف مدرسة لا يمكن للإنسان ان يتخرج فيها! لكنك بدأت تعزفه بدون اخطاء ولا تنس ان المطرب العازف أكثر حساسية.
بمجرد ان بدأ جلال غندور يجد صعوبة في التحرك بحرية، أصرّ والده على زواجه بأسرع وقت، حتى لا يقع في إغراءات عالم الليل والفن ورفقاء السوء.
- هذه حياة غير حقيقية لا احب ان تنغمس فيها، قال أبوه له.
رغم مرور ثلاث سنوات على بداية طلته الاولى في "العرزال"، كان جلال لا يزال مطربا فيه يجدد عقده السنوي مع صاحبه بمحبة وإمتنان، وقد إختار شقة صغيرة للإيجار في ساحل علما ليكون قريبا من عمله، بعد ان بدأ الناس يطلبونه للغناء في اعراسهم، وسافر عدة مرات للغناء في مناسبات عديدة لأمراء وشيوخ في دول خليجية. كان متمسكا بعقده، ويشعر انه حصن امان له في مواجهة المطربين الذين كثر عددهم بشكل كبير في الفضائيات، ومزاجية بعض الوكلاء الكبار في السوق، إضافة إلى الفضائيات المتخصصة في عرض الكليبات وحفلات الغناء، وتُصعَّد من تشاء وتخفِض اسهم من تريد، بعد إحتكارهم فنيا، وطالما إتُهم جلال غندور بأنه مطرب لا طموح له، لكنه في حقيقة الامر، كان واقعا تحت تأثير تفكير ملكة الرتيب، وإميل الريّس الذي حذّره عدة مرات، من توقيع عقد إحتكار قد يحّد من طموحه ويجعله مقيدا بشروط شركة انتاجية.
كان جلال غندور متفرغا لفنه، ويترك باقي الامور الادارية والقانونية على ملكة ومحاميه، أما شأن التعامل مع وسائل الاعلام فكان مع إميل الريّس وكيله الاعلامي، وكان مقتنعا باذاعة اغانيه من بعض محطات "أف ام"، التي كان على علاقة وثيقة للغاية مع اصحابها، ويرفض ايضا ان يختار احدها لتذيع أغانيه حصريا، إضافة إلى حصة مبيعاته الجيدة في سوق الكاسيت، التي إختار ميشال سعد احد شركات إنتاجه اللبنانية، لتنتج وتوزع اغانيه.
- هل انت قادر على العيش من غنائك في عطلة الاسبوع في "العرزال"؟ سألته اخته سوسن وهي تتأمل شقته اثناء زيارة لها مع إبنتيها.
- لا تنسي غنائي في الاعراس والحفلات وبعض الدول العربية ومبيعات الكاسيت. هذا المكان الوحيد الذي أكسر فيه شروط عقدي بعدم الغناء في العطلات بدون مشاكل قانونية. اجابها.
- لكنك مازلت مطرب مطاعم كما يُشاع عنك. قالت له، ولم يدرك لماذا رأى طيف أمه في مخيلته وهي تقول لها احيانا: ياعقربة!
- وإذاعات وحفلات ايضا! قال لها وهو يتأمل بشرتها الصفراء وعينيها اللتين تلمحان محدثها فقط ولا تنظران مطلقا إليه.
- ملكة والريّس وميشال سعد موظفون لمرحلة فقط. هؤلاء لا يصلحون لمستقبل أكبر انت تستحقه.
- انا الذي اصنع مستقبلي. اجابها بحدّة.
- هذا صحيح لأنك تغني، لكنهم يوجهوك كيفما شاءوا، ويستحيل بنصائحهم ان تصل إلى المهرجانات العربية.
- هم مخلصون، ولحظة الظهور في المهرجانات العربية والدولية لم تحن بعد. انا في البزنس واعلم ما اقوله تماما.
- إذا استمريت على هذا المنوال لن تأت هذه اللحظة ابدا!
رغم ان سوسن كدرت صفو تفكيره في ذلك المساء، إلاّ انها دفعته للتفكير في الغناء على المستوى العربي، فطلب من ملكة أن تضعه على قائمة غناء احدى مهرجانات الاغنية العربية، بسعر لم يتوقعه المتعهد، لكي يثبت للناس انه قادر على الانتشار خارج لبنان وإطار حفلات الامراء، وعاد إلى بيروت بعد ان حصد تصفيق ومحبة المشاهدين، كما باع كل الكاسيتات التي سافر بها مع مجموعة المساعدين الذيي رافقوه على ابواب المهرجان، ليبدأ صفحة أشد طموحا في حياته، هي غناؤه في حفلة خاصة به يتخللها إستراحتان، وقد نصحه إميل الريس بإختيار إحدى المطربات أو الراقصات، لكي تضفى اللمسة الانثوية التي يحبها الناس، ولا يترك الجمهور يتحدث ويمّل اثناء استراحتيه، وكان تعقيب غندور الوحيد انها فكرة جيدة، وترك للريس وملكة الإختيار والتفاوض المالي مع إحدى المطربات وراقصة.
- يناديك الناس حتى ملكة ياجلال أو غندور، وما زلت اناديك إسماعيل. قال ابوه له ذات ليلة.
- ماذا تريد من جلال يا ابا إسماعيل؟ سأل اباه وهو يضحك.
- ان تتزوج.
- هل تعلم ان هذه مشكلة فعلا؟ قال لأبيه.
- حذرتك منها لكنك وقعت فيها، والان انت لا تستطيع ان تتمشى مع فتاة لتتعرف عليها في كورنيش المنارة مثل أي شاب في عشرينات من عمره.
- ولماذا كورنيش المنارة وليس أي مكان آخر؟ سأله جلال وهو يضحك.
- لم أقصد كورنيش المنارة نفسه، لكنني قصدت بساطة المعرفة الحقيقية بعيدا عن الشهرة والاضواء وهي ليست حياتك الواقعية.
- هذا صحيح. وما هو الحل؟
- سأختار لك بنفسي. هل تسمح لي بذلك؟ هناك فتيات كثيرات من عائلات محترمة اعرفهن.
- وانا سأقرر واختار.
- هذا امر طبيعي. قال والده.
إرتاح جلال غندور لعرض والده هذه المرة، لأنه كان مرهَقا من سر إحتفظ به لنفسه ولم يقله لأحد. فقد نشأ إسماعيل في دكان والده، وتعوّد ان يعطي الزبون أو الزبونة كل إهتمامه، يبتسم له ويتحدث معه وينساه تماما بمجرد خروجه بعد الشراء، ليستقبل إنسان آخر بالاهتمام والابتسامة وتجاذب اطراف الحديث نفسه، ولم يدر كيف ولماذا تطورت عادة معه تجاه المرأة في مرحلة مراهقته المبكرة، وأصبحت، بدون قصد منه ولسبب لا يعرفه، شغفا بالمرأة الجميلة التي تدخل الدكان لتشتري؛ كان يتحدث معها بكل تهذيب حتى لا يفقدها كزبونة، أو يسمع منها كلام عن عدم إحترامه لزبائنه، بينما عيناه تتأملان بهدوء وحرص وجهها وتفاصيل جسدها، ثم ينساها تماما بمجرد خروجها من المحل كأنه لم يرها، ليستقبل زبونة اخرى جميلة أو ذات جاذبية جنسية بالشغف والاسلوب نفسه، وقد ادركت بعض النساء مغزى نظرات عينيه، وكان بعضهن يتجاهلنه لأنه لا يؤذيهن أو يتحرش بهن، وبعضهن وجدن نشوة ورضا من قدرتهن جذب إنتباه شاب في مثل عمر ابنائهن احيانا، خصوصا من تخطين الاربعين منهن، ووصل تمادي قليلات منهن إلى إقامة علاقة جنسية معه، كان هو ينسى شغفه لهذه المرأة أو تلك بعدها تماما، لكنه كان يستقبلهن وغيرهن في الدكان بشغفه الذكوري العارم نفسه لكل إمرأة جميلة، ويبدأ لحظات من الاهتمام الذي لا يدوم بتاتا مع كل مليحة. وقد وضعه سلوكه وتلهف نظرات عينيه في مرتبة "دون جوان" عند بعض النسوة، خصوصا المراهقات اللاتي كن معه في مدرسة حكمة الاشرفية.
لم يستقر جلال غندور على علاقة عاطفية أو جنسية واحدة، ولم يستطع لجم شغفه العارم غير المحدود بالمرأة التي تثيره جنسيا، ثم نسيانه لها تماما بعد خروجها من لحظة وجودها امام عينيه. وقد تطورت هذه العادة السلوكية إلى تفكير جنسي لا ينقطع بكل جميلة، لكنه كان لا يبادر بالتلميح بما ينم عن رغبته، سوى بعد موافقة صريحة بنظرات العين أو مواربة الباب منها، خوفا من رفض يهين كرامته امام نفسه، أو يسبب إساءة لعمله سواء كان في دكان ابيه أو في دائرة الشهرة، التي بدأ افقها يتسع امامه. ومن المذهل انه إستطاع ان يخفي هذه الحقيقة عن كل من حوله حتى الاصدقاء المقربين، ولم تلحظها سوى ملكة التي ألمحت له بكلمات لها دلالتها ذات يوم، انه بحاجة إلى زوجة تحبه وتعالجه في الوقت نفسه، ما زالت نيته الزواج من فتاة يراها ابوه انها المناسبة.
- افهم ان تحبني فتاة، لكن تُشفيني من ماذا؟
- من مشكلة تعانيها.
- لم افهم قصدك. قال لها.
- لم استطع إدراك تورطك سوى بعد العمل عن قرب معك.
- هل تعتقدي انني اعاني فعلا من مشكلة؟ سأل جلال ملكة لعلها تعينه.
- انت تنجذب الى المرأة الجميلة من كل قلبك، لكنك لا تحب احدا على وجه الخصوص.
- من قال لكِ ذلك؟ سألها وهو يبتسم مرتبكا.
- ياعمتي.. لا احد يعرف ذلك عنك. انت في منتهى الذكاء والحرص والكياسة الاجتماعية. متحكم في رغباتك، عكس معظم الرجال. انا إكتشفت ذلك بنفسي في عينيك ولم اصدقه في البداية، سوى بعد التدقيق.
- هل هناك حل حسب رأيك؟
- هل انت مرهق بسبب ذلك؟
- لا اعرف طعم الاستقرار، ولا فتاة مميزة عندي. انا انجذب الى كل إمرأة جميلة واتوهم انني احبها ما زالت امامي.
- ربما ذلك جزء من طبيعتك كفنان. وربما مرض نفساني. انا لست متأكدة، لكنني على ثقة بأنك في أشد الحاجة إلى إمرأة تحبك كما انت، وتحبها انت. تحبها هي، ليس لأنها مثيرة ولكن لأنها هي.
- اتمنى حدوث ذلك. إنني اغنّي احيانا لإمرأة بعينها في الحفل، مع الحرص على عدم أذى مشاعرها بين الحاضرين.
- وتنساها بمجرد خروجك من على الخشبة.
- هذا ما يحدث تماما.
- انت تتمرن على اداء أية اغنية، قبل غنائها امام الناس.
- امر مؤكد.
- لا تنظر في عيني إمرأة تجذبك أو تثيرك جنسيا. لا تتورط شعوريا في حديث العيون. حاول عدة مرات لتجعل ذك الامر عادة تمحو الاخرى السيئة المرهِقة.
- مثل إبدال سيجارة بقطعة من الحلوى؟
- شيء من هذا القبيل.
لم تتغيّر صداقات جلال غندور بعد وصوله إلى الشهرة، لكنها اخذت شكلا جديدا هو كثرة إستعمال الهاتف فيها، لأنه كان لا يستطيع التحرك بحرية مثل زمانه السابق عليها، ورغم ذلك كان يشتاق احيانا إلى وقت مضى كان يذهب فيه إلى ميشال سعد ويقف بجواره وهو يغلي القهوة، ثم يحتسياها في غرفة المكتبة وهما يثرثران، بينما هو يستمتع بقدرة الاستاذ على الحديث في أي موضوع، ومقدرته المذهلة على التحرك من الارض إلى الفضاء ثم العروج على الجنة والنار بكل إنسيابية، وكان يزوره متأخرا كالعادة كل فترة يوم الجمعة ليتحدثان بعيدا عن شؤون العمل تماما، ويضحكان على آخر النكات خصوصا السياسية التي سمعاها من الناس، وكان جلال يذهب في سيارة إبنة أنطوان عزيز القديمة، التي إحتفظ بها كتميمة حظ تقف امام منزل ابيه وميشال سعد، لأنهما الوحيدان اللذان كان يزورهما بنفسه حتى بعد دخوله إلى دائرة الاضواء.
- لماذا تصّر على مناداتي بالاستاذ؟ سأله يوسف ذات ليلة.
- لأن لساني لا يستطيع سوى هذا النداء.
- ميشال أسهل.
- إذا قلت لي بعض اسرار حياتك، سنكون اصدقاء.
- نحن اصدقاء على ما أظن! ما آخر نكتة سمعتها قبل ان تسألني عن حياتي الخاصة؟
- سأل سمير جعجع احدهم: لماذا لا تُقبل دعواتي من مار مارون وهو شفيعي أو المسيح رغم انني احبه؟ فقال الرجل: لأن مار مارون سوري والمسيح فلسطيني!
- قه.. قه... قه... قه...إسألني ما شئت بعد هذه النكتة القوية.
- لماذا لم تتزوج؟ سأله جلال وهو يضحك بعد ان روى النكتة بكل جدية.
- فشل مشروعا زواج في بدايات حياتي العملية، ثم اخذني تيار الحياة بعيدا عن هذا الطريق. إنني لا اصلح للمسؤوليات والزواج كما يبدو.
- لكني في ايام التلمذة الثانوية سمعت همسات تخبر عن غرام لك خارج المدرسة.
- لأنني رجل له رغباته.
- لماذا ربطت الزواج بالمسؤولية فقط؟
- لأن لحظات المتعة فيه قليلة. وتبقى مسؤولياته التي نراها في عيون اولياء الامور في المدرسة، وبعد مرحلة الدراسة. مسؤوليات لا تنتهي سوى بالموت، ولا تتوقع بعد تحمّلها ان يشكرك احد. قال كثيرون لي ذلك.
- فقط؟
- ولا تنسى صعوبة الحفاظ على هذه المؤسسة عندما تريك الايام كل نقائص شريكك واموره التي تغيظ. والامر نفسه بالنسبة له تجاهك.
- ...
- صراع كبير.
- كيف عشت؟ اقصد حياتك الخاصة.
- تعودت على الذهاب إلى فرنسا وانا تلميذ لأعمل في حقول العنب صيفا، وذات مرة لفت سنجاب نظري بسعادته الفائقة وهو يقفز ويجري، فتمنيت ان أعيش حياته.
- لكن السنجاب غير الانسان.
- حاولت ان اعيش حياتي العابرة هذه مثل سنجاب. نجحت إلاّ قليلا. رأيت حيوانات كثيرة تقفز هنا وهناك، لكن السنجاب أمر مختلف تماما. انا لا اؤمن بحياة اخرى غير هذه.
- لا تؤمن؟
- لأنها مستحيلة عقليا، كل ما يملكه الانسان هو جسده وطاقة تحركه. يقولون عنها روح أو نفس وما إلى هنالك. عمليا هي طاقة تتبدد بعد الموت لأنها لا يمكنها ان تعيش بنفسها.
- لا تذهب إلى اي مكان؟
- تتبدد. هذا رأيي. قل لي انت: اين تذهب؟
- ...
- اين يذهب البنزين بعد إحتراقه في المحرك؟
- لكننا لسنا سيارات.
- إسماعيل! إذا كان الالم والجوع واللذة والخوف والشهوة والتفكير يجمعون بيننا وبين الحيوانات، فهي ايضا لها حياة اخرى! الخلود. هل تصدق ذلك؟
- هل الحيوانات تفكر؟
- هل تريد القول ان الله أنعم علينا فقط بالتفكير ولذلك نحن خالدون؟
- نعم. هكذا ورد في الكتب السماوية.
- كل مخلوق يفكر على قدّه. لماذا تهرب القطط بنفسها من امام السيارات؟ نوع من التفكير.
- وماذا عن الله نفسه؟
- صنع الانسان آلهة من معادن أو حجر وعبدها، وبعد مرحلة الآلهة المحسوسة هذه، خلقت الاديان الإبراهيمية فكرة الله غير المحسوس، من إلوهيم وهي كلمة كنعانية تشير لعدة آلهة، وقال انه في السموات، بينما السموات عمليا هي الفضاء.
- ...................
- اعتقد ان هناك مرحلة لاحقة ستكون الكلمة فيها للعلم وليس الاديان كافة.
- وماذا سيقول العلم؟
- سيقول امورا معقولة عن الله والحياة، فكل ما قيل حتى الان مجرد اساطير. هذا رأيي الشخصي.
- على فكرة.. لماذا لا تكتب؟
- أكتب ماذا؟ سأله ميشال سعد وهو يبتسم.
- في الاعلام. كتاب. كل هذه الافكار تقولها فقط.
- لأن هذا ما استطيعه. لا اعرف كيف اكتب.
رغم مظاهر الحب التي غرق فيها جلال غندور في اوقات إقامته في لبنان، لأنه كان كثير السفر في تلك الفترة، مع خطيبته سميحة التي تحولت إعلاميا إلى مي، كانت ملكة تظر إليهما غير مصدقة ان هذين الخطييين يمكنهما العيش تحت سقف واحد لمدة طويلة. لم تدر لماذا شعرت ان ثمة شيء ما لن يستقيم بينهما، وسيكون سبب فشل زواجهما إذا تم. كانت قدرة سميحة على إشاعة الفوضى في غرفتها، والطريقة التي تأكل بها وتترك بقايا الاكل في صحنها وحوله على المائدة، من الامور التي جعلت مديرة وصاحبة "بيت الطالبات" سابقا تتوقف عندها كثيرا، وكادت ان تبوح بذلك الامر لمحمود بيضون، لكنها تراجعت لأن ما لاحظته لا يشكل أي عقبة في الزواج، الذي يُبنى دائما على معايير السلوكيات الاخلاقية، إضافة إلى كونها زوجة أب قد لا تفهم ما هو مفيد لإبن زوجها، أو قد تُتهم، خصوصا من "العقربة"، إتهام يُدمر حياتها مع زوجها نفسه، لأنها كانت الوحيدة المدركة لظلمات نفس إبنة زوجها التي لا قرار لها، ومن الاشخاص المقربين لدرجة الإلتصاق بجلال، وقد قالت لها سوسن من قبل بأنها موظفة فاشلة، نسبة الى نهاية مشروعها في بيت طالبات، تدير اعمال مطرب، وكادت العلاقة بينها وبين والدها وجلال ان تُدمر بسبب ذلك التلميح، وحلّ تحفظ شديد عليها منذ ذلك الوقت، لم تستطع ان تبدده حتى ولادتها لأبنتيها أو حلول مناسبات الاعياد.
كانت سميحة لم تزل تلميذة جامعية حين خطبها جلال غندور، وكانت من عائلة بيروتية عريقة تسكن في حي حوض الولاية، الذي يبعد مرمى حجر عن شقة محمود بيضون ودكانه. كان ابواها من زبائن محمود منذ فترة طويلة، ومن الناس الذين يزورهم ويتحدثون معه تلفونيا بمودة، حسب ما تتيح ظروف الحياة التي يركض فيها الجميع، وقد إنقطع محمود عن زيارتهم فترة منذ ان دخل إبنه إلى دنيا الفن، ولم يعد ذلك المُعين في المحل، لكن المودة ظلت من خلال المرات التي كان يلتقي فيها محمود بأحد والديّ سميحة في الدكان للشراء، أو في الشارع بدون موعد، ثم تصادف ان زارهم مرة خاطفة، ورأى سميحة بعد سنوات غياب، وتبلورت في ذهنه فورا فكرة زواج إبنه منها.
لم تحدث سميحة في نفس جلال الشعور نفسه التي تحركه فيه بعض الفتيات والنساء، لكن تلميحات والده كانت كافية بإقناعه إتقاء عبثية مضمون عالم العزوبية، وهفوات الرجل صاحب الشهرة والقدرة المالية، والبعد عن الصورة المبهرة الوهمية التي يراها في النساء حوله، لأنهن ذاهبات إلى حفل، وهذا الامر غير موجود في حياتهن، ومن قدرة بعض اصدقاء السوء على إستغلال الإنسان ليسوقوه نحو اهدافهم، ومن طمع الناس في امواله إذا ظل وحيدا.
لا شك ان سميحة قد قرأت من أول لحظة غياب نظرة الاعجاب والشغف الجنسي في عيني جلال غندور إليها، فكانت دائما تلقاه، بعد ان نصحتها امها، بمكياج كامل يبوح بانوثة عارمة من صنع مزيّن محترف، واناقة مفرطة من إختيار اختها، المديرة التنفيذية في أحد أرقى فروع بيوت الازياء العالمية في بيروت، وجعلته يشعر انه محور حياتها الجديدة، وكانت دائمة الاتصال به على هاتفه الخلوي، الذي لا يعرف رقمه سوى قلة من الناس. ومن الامور المدهشة ان جلال ظل يقع في تيار إنجذابه في لحظته الخاصة إياها مع المرأة المثيرة، حتى لو كانت سميحة بجواره، لينساها في اللحظة التالية، ويعود إلى خطيبته المدججة بأسلحتها، المنتشية بوجود جلال غندور المطرب عريس المستقبل بجوارها، الذي تتسابق الفتيات إلى مصافحته.
- لماذا تضع تمثال العذراء في بيتك رغم انك مسلم. قالت سميحة بعد ايام من زواجهما ووجودهما بعد "إسبوع العسل" في منزل ساحل علما.
- هذه مسألة شخصية. رّد عليها.
- لكنني زوجتك.
- ورغم ذلك، ارجو ان لا تسأليني عن هذا الامر، وتجيبي بعدم معرفتك السبب لمن يدخل بيتي ويسألك.
- هكذا ببساطة؟
- قولي شفاعة أو بركة.
- هل انت مؤمن بالمسيحية؟
- لو كنت كذلك لوضعت تمثال المسيح! وجود تمثال العذراء في بيتي وغرفتي في بيت أهلي ايضا مسألة تخصني.


4


شغل جلال غندور ومي معظم اغلفة المجلات الفنية اللبنانية كافة قبل وبُعيد زواجهما، وبعد إنقضاء إسبوع العسل في اليونان، وعودتهما مرة اخرى إلى تفاصيل الحياة الروتينية، بعد احاديث لمجلات الفن والمجتمع كافة، وإستهلاك وقتهما في إلتقاط صور بعدسات خاصة تبرزهما كائنيّن نورانيين لا عيوب في بشرتيهما، إضافة إلى فترة تلّقي التهاني في بيروت في الوقت نفسه، شعرت ملكة كأن جلال لم يتزوج، او بأنه غير سعيد، لأن ملامح سعادته حتى بنجوميته قد بدأت تحل محلّها نظرة طويلة متأنية إلى فراغ امامه، قطعها ذات مرة وهو يتحدث إلى احد كتّاب اغانيه، وهو يشرح له بأنه يريد ان يغني اغنية سعيدة مرحة، بعيدة كل البعد عن كلمات الحب والغرام، وقد سمعته يكرر هذا الطلب هاتفيا مع ميشال سعد، ويتمنى عليه ان يعطيه فكرة أغنية عن السنجاب، ليصيغها احد كتّاب الاغنية، ليكون اول من غنّى لهذا الحيوان عربيا وربما عالميا. وكانت ضحكة جلال غندور تبدو وكأنها صدى لضحكة أكبر سمعها من الطرف الاخر على الهاتف، لم يستطع سوى التجاوب معها، لكنها فهمت معانى الحديث من كلمات جلال وضحكاته المتقطعة، وهو يقول انه لا يمانع ابدا الغناء للأطفال، كما ابدى جلال رغبة عارمة في السفر إلى دول عربية، ليغني في فترة كان من اللائق فيها ان يكون غارقا في العسل مع عروسه.
- مقرفة. هذا سر بيني وبينك حتى الان. همس جلال لملكة وهو يشّد على كل حرف من الكلمة، ردا على تلميح لها بغياب إبتسامته التي تعودتها منه بعد زواجه.
- سأتحدث معك ياعمتي كسيدة، لا زوجة اب أو مديرة اعمال. ارجو ان تقدّر هذا الموقف تماما.
- تحدثي بشكل محايد. اريد ذلك فعلا.
- معظم النساء يستعملن ملابس داخلية في فترة ما بعد الزفاف مباشرة، مصنوعة من النايلون لأنها أكثر إثارة.. انت تعرف الباقي، ان الانسان يعرق و.. انت تدرك الباقي.
- المشكلة ليست هنا.
- بعضهن لا يزلن مكياجهن وتصفيفة شعرهن ليحافظن على رونقهن أكبر فترة ممكنة، وكل هذه الامور قد تختلط بعرق المرء.
- قلت لك ياعمتي: المشكلة ليست هنا. مقرفة .. مقززة لكن ليس المعنى الموجود في القاموس. ربما الأفضل ان اقول انها تشبه اختي.
- هل قلت لها ذلك؟!
- لا أعرف كيف اقوله.
- يبدو انها عديمة الخبرة فعلا. إصبر عليها ولا تندفع في الاحكام، لأنك صاحب خبرة لا تملكها هي.
تبين لجلال غندور بعد العِشرة مع مي أنها من ذوات الطباع المتشائمة بالفطرة ايضا، اللاتي يستحيل ان يقلن سوى كلمات التوجس من نجاح كلمات اغنية معروضة عليه ويفكر ان يغنيها، ويجبن على اسئلة الاعلام بشكل سوقي يثير الحنق، ويرفضن، على غير عادة معظم النساء، الذهاب إلى مطعم لتناول الأكل، ويواجهن أي امر من امور يوميات زوجين حديثيين بأعصاب متوترة، حتى زيارة صديق له، إضافة إلى قنبلة اطلقتها بعد بضعة ايام من زواجهما هي البحث في ماضيه، وبدء محاسبتها العسيرة عندما صرح لها بوجود علاقات نسائية سابقة له، وانها لم تكن حبه الاول.
بدت سميحة لجلال حقودة غبية، ذات عينين تملكان قدرة فائقة الاعجاز، مثل اخته تماما، على إلتقاط العيوب، في أي شيء تراه ومقال تقرأه وصورة تشاهدها وحديث تسمعه وطعام تأكله ومطعم تذهب إليه، إضافة إلى تأمله بشكل منفّر وهو يتعرى قبل لحظاتهما الخاصة، ومراقبته بأعصاب فولاذية وهو بين اعضائها، وشفتين لا تعرفان كيف تقولان همسة حب أو بوح بشهوة، ما جعله يصاب بعادة سرعة القذف، لينتهي لاشعوريا من ورطة جنسية يقع فيها مضطرا، الامر الذي نغّص حياته الجنسية معها ايضا، وجعلها بالنسبة له، عينيّن لا تلاحظان سوى العيوب، وصوتا يزعجه سماعه، وقلبا متشائما لا يتناسب مطلقا مع عمرها، أقرب الى تراب الارض منه إلى اقواس القزح التي كان يمشي عليها ويخاف من أي نفخة تحيلها إلى عدم، لذلك لم يكن مستحيلا عليه ان يترك شقة حي ساحل علما ذات صباح بعد اربعة شهور من الزواج، بدون ان يأخذ حتى غرض من اغراضه الشخصية، ويتوجه للإقامة في موتيل صغير للغاية في جونيه، هاربا بما بقي له من دوافع البقاء والطموح للاستمرار، عازلا نفسه عن اهله واعماله والاعلام، بعد ان ارسل لها على عنوان بيت أهلها كتاب طلاق، ارفقه بوثيقة قانونية من محاميه بما لها من حقوق، صيغت بكرم زائد عن سابق تصور وتصميم، وسط ذهول كل المقربين من تصرفاته وغيابه وإغلاقه هاتفه الخلوي نهائيا.
لم يلم جلال سوى نفسه على خطوة زواجه، لأنه لم يحب سميحة ولم تحبه هي ايضا، وغامر في زواج من المؤكد ان الاعلام سيتناول فشله على أغلفة المجلات، وقرر عدم إنكار طلاقه، وتجاهل تساؤلات الصحافيين، حتى يرى ما ستتورط به هي من احاديث للمجلات الفنية، وكان يخشى سوقيتها في التعامل مع هذا الحقل بالغ الحساسية، وعدم تقدير الكلمات التي ستقولها، ويمكن ان تضعها على أغلفة بعض المجلات للنيل منه، لكنه قرر عدم الرد عليها مطلقا مهما قالت، حتى لا يدخل وكر دبابير يلهيه عن فنه، ويجعله متفرغا للبحث عن ما يُقال عنه ليرد عليه، أو يتوسل اجهزة الاعلام لإطلاعه مسبقا على ما سيُنشر للرد عليه بأسرع وقت.
عاد جلال بعد إسبوعين إلى منزل والده ليعرف اصداء ما حدث، بعدما أكّد حارس العقار له بأنها تركت المنزل، لكنها جاءت مرتين لأخذ اغراضها منه مع اختها. لم يشأ العودة إلى منزله حتى تتبين كل الامور له، لأنه كان فعلا غير راغب في رؤيتها إلى الابد. نفور ثابت منها تأصل فيه، لم يجد لمحة أو كلمة قالتها تخفف حدته، وكان يتعجب في ما بينه وبين نفسه ان يخرج من بين اسرتها إنسانة مثلها، كما كان لا يصدق احيانا انه تزوجها.
- هل قالت بأنني قد اجحفتها حقها؟ سأل جلال والده.
- لم تقل. قال والده بتسليم أمر واقع قد حدث.
- هذا أهم ما في الامر. صحيح ان أبغض الحلال عند الله الطلاق، لكنه عمليا قد يحدث.
- لقد إنتهى الامر بينكما، لكن هل تعتقد انك تسرعت؟
- كان الامر سينعكس حتى على عملي. انا لست موظفا عاديا. إذا لم اكن مرتاحا يا ابا إسماعيل، لا يستطيع جلال غندور ان يغني.
- كان يجب ان تخبر اهلها بما نويت.. من خلال الهاتف على الأقل يا إبني.
- الحق معك. هذه غلطة إجتماعية لا تُغتفر.
- هل انت متضايق مني لأنني سبب هذا الزواج؟
- مطلقا. إنني اؤمن بالقدر.
من المؤكد ان حوارات عديدة جرت بين محمود بيضون وزوجته ملكة، التي لعبت دورا مهما في محاولة عدم إنعكاس الامور إلى الاسوأ بين العائلتين، وفي دفع محمود إلى الخروج من عقدة الذنب التي احزنته للغاية، وكانت ملكة تتوقع ان يتصل جلال بعائلتها، ولم تتوقع حضوره والعيش في منزل والده لفترة حتى يستعيد توازنه، حسب ما قال. شعر محمود بيضون انه فقد صداقة هذه الاسرة، بعد معرفة إستمرت سنوات طويلة، لأن حدث الطلاق لا يمكن ان يعيد الامور إلى ما كانت عليه قبله، وقد جعلته ردة فعل اسرة سميحة يشعر بالارتياح لأنهم رجحوا كفة نصيب الانسان في فشل هذا الزواج، فالعروسان لائقان لبعضهما بعضا كما قالت امها هاتفيا له. والمرجّح ان صداقة محمود بيضون مع اسرة سميحة، ومحاولة تجنب فضيحة هما سببا تهدئة الخواطر واللجوء لأحكام العقل، لأنهم يعلمون تماما ان الرجل لم يطلب إبنتهم للزواج من إبنه عن طمع، فقد تقدم لذلك الامر وإبنه من الميسورين المشهورين، كما حاولوا ان يستشفوا من إبنتهم عن سبب الورطة التي حدثت، ولم يستطيعوا تخطي حاجز الصمت الذي ضربته على نفسها، وعزلتها عن اصدقائها، وغياب شهيتها لتناول الطعام الذي جعلها تفقد الكثير من وزنها، وعكس الامر على بشرتها وإسلوب حياتها، وجعلها تفقد عاما دراسيا، لأنها قررت عدم الذهاب إلى الجامعة، والالتحاق بأخرى في السنة الدراسية النهائية، خوفا من شماتة الناس.
- لماذا؟ سألتها امها.
- لا استطيع ان اواجه الناس، لقد حطمني.
- الطلاق والموت والمرض امور تحدث لكل الناس.
- هذا صحيح. لكن حدوثها لا يمنع اصحابها من الندم أو الحزن، خصوصا عند حدوثها بهذه السرعة.. بهذه الطريقة الوضيعة.
- هل تصرّين على الخسائر من جميع الجهات؟
- ليس مهما خسارة عام دراسي. انا لم اخسر سوى رونقي الاجتماعي بين الناس.
- لماذا حدث هذا الامر؟ إشرحي بتلميح افهمه.
- كل الفنانين مجانين مزاجيين انانيين!
- هل هذا كل ما في الامر؟
- لم يستمر أي منهم في زواج دائم. لكن الفتيات يركضن ورائهم للزواج بهم، بمن فيهم انا. كانت غلطتي الكبرى.
- هل لم تحبيه؟
- عندما كنت أسمعه قبل الزواج، كنت اعتبر انه مطرب الحشاشين والغائبين عن الوعي، فالمستقبل للأغنية السريعة. طرب اصيل؟! قه.. قه.. الرجل مش عايش بعصره.
كان محمود يرى إبنه وهو يمارس حياته الفنية بعد زواج فاشل، من خلال ملكة التي كانت تبلغه بإتصالاتها واعمالها كافة، وكانت سعيدة جدا رغم ان جلال لم يكن يذهب إلى مكتبه ليقابل الناس، أو يرد على من يطلبه على الهاتف، وكانت تبرر ذلك بأمور كثيرة، لكنها في ضميرها كانت تخشى ان يؤثر الامر عليه، حتى لو قال لها بأنه أتفه من ان ينعكس على وظيفته.
نُشرت مقابلة مع سميحة في احد المجلات الفنية، بعد أكثر من شهر من طلاقها، بإيعاز من اختها التي نصحتها برد الصاع لجلال، حتى لا تعيش وحدها تمضغ خيبتها، وتجعله يصاب بأرق يعلّمه إحترام خصوصيات الاسر وبنات العائلات، ولا يجرؤ بعد ذلك ان يقتحم البيوتات المحترمة ويصاهرها، وقد صرحت في حديثها بأن الطلاق تم بينهما والامر ليس شائعات، وشرحت بطريقتها السيناريو الذي غادر به حياتها، ما جعله يبدو فاقد الاتزان امام معظم الناس الذين ينبهرون بعنوان الحدث وينفعلون بصوره، ولا يطالعون ما بين سطوره، ويقولون رأينا صورة فلان، ولا يقولون قرأنا الخبر الذي ينقلوه شفاهة عن آخرين لآخرين، بعد اضافة اوهامهم الشخصية عليه. وقد ختمت مي المقابلة بصورة موجعة له للغاية، عندما ردّت على سؤال قالت فيه: "ما بيننا قد إنتهى وسأرفض طلبه لو جاء يسألني العودة زوجة له مرة اخرى، لأنني اعلم تماما انه مزاجي". ثم قالت ردا على السؤال الاخير: "قد اتزوج مرة اخرى إذا صادفت من يقدّرني، فالتجربة كانت مقبضة لي. إنني انتظر مرور شهور العدّة شرعا فقط، لأن شيئا لم يحدث بيننا".
- لا تعليق على ما قالته زوجتي السابقة، ولا مقابلة صحافية معي بهذا الخصوص ايضا. قال جلال لمحرر مجلة فنية على الهاتف.
- كلام وكيلك الفني إميل الريس نفسه. لكنك لست شخصا عاديا. انت ملك الناس.
- هذا صحيح تماما، لكن حياتي الشخصية ملك لي.
- على الأقل، ما صحة خبر طلاقك وما قالته زوجتك السابقة؟
- تم الطلاق فعلا بالتفاصيل كافة التي قالتها زوجتي السابقة، ولم تزل تقولها للإعلام. لا تعقيب. هي حرة في وصف ما حدث. هذه وجهة نظرها.
- حتى إميل الريس لا يقول شيء بهذا الخصوص.
- لأن ما حدث قالته هي.، فلماذا يردد إميل أو انا الكلام نفسه؟
كان هذا الحديث الهاتفي المقتصب تقريبا رد جلال نفسه لوسائل اعلامية اخرى، وهو يزدرد غضبه وألمه، بعد ان اصبحت مي ضيفة إسبوعية على وسائل اعلامية مختلفة، ترددت اشاعة قوية بعدها في الوسط الفني والاعلامي، تهمس بأنها حصلت على عقد عمل وظيفة مذيعة في إحدى الفضائيات براتب كبير غير مفسر لمن لا خبرة سابقة لهن، بعد ان إستضافها احد البرامج التلفزيونية وجذب ألوف المشاهدين، وجعل العشرات يتصلون هاتفيا بالشبكة التلفزيونية طالبين إعادة بثه مرة ثانية، وسرعان ما صار هذا القول حقيقة، عندما ظهرت مي وهي تقدم بعد عدة اسابيع برنامج منوعات غنائية في فضائية عربية، يجيب على إتصالات المشاهدين، ويعرض كليبات يطلبوها، أو كليبات مع إهداءات من متابعي برنامجها.
- امر مدهش فعلا. هل الفضيحة اصبحت شرط دخول هذا المجال؟ سألت ملكة جلال.
- كان اصحاب الفضائح يتوارون في الماضي حتى ينسى الناس فضيحتهم، واليوم صاروا نقاط جذب. تغيّر المفهوم. اصبحت الفضيحة تضيف رونقا عليهم، وتجعل رواتبهم أكبر!
- لماذا؟
- هم قادرون على التسويق بمفهوم البزنس الان.
- كيف؟
- هل يمكن ان تتخيلي عدد مشاهدي هذا البرنامج الذين يريدون رؤية زوجتي السابقة وليس البرنامج نفسه؟ عشرات الألوف.
- ما السبب؟
- انت تسألي ما السبب لأنك تعرفي، لكن الناس يشاهدونها إرضاءً لفضولهم.
- انت محق.
- هل تتخيلي ماذا يمكن ان تصبح قيمتها هي من وراء ترويج إعلانات شامبو أو مياه غازية وما إلى هنالك؟
- وهل ستربح الشركة المُعلنة؟
- اكيد! الناس سوف تشتريه لأن مي تستعمله! إنهم لا شعوريا يحلمون بشيء يدفعهم إلى الشهرة. تعويذة تلمسهم منها أو من غيرها.
- ما يعني انك قدمت ما يشبه تسهيلا إئتمانيا لها لم تحلم به!
- ولم اتوقعه ابدا.
- لماذا لا تستغل هذه الفضيحة ايضا؟
- طريق سميحة غير طريقي. ثم انني لست بحاجة لمثل هذا الباسبور للعبور إلى الشهرة. عبرت بموهبتي.
ثمّن ميشال سعد كل ما فعله جلال غندور، لأنه إرتفع بنفسه عن الصغائر كما قال له. وفي المرتين اللتين زاره فيهما جلال ليلا، لتحاشي جمهرة الناس حوله، كان يحثه على عدم الانجرار وراء إبتزاز الاعلام له ليرد على إتهامات زوجته السابقة له ومناوشاتها، ويحاول التخفيف عن تلميذه وصديقه، رغم ان الاخير كان يبدو دائما متماسكا غير آبه لما حدث، لكنه كان في حقيقة الامر منزعجا من تعليقات بعض الناس الذين يضعون انوفهم في خصوصيات الاخرين، ولا يمكن تحاشيهم لأنهم بعض من جمهوره أو الذين يتعامل معهم.
- حسب ما اعتقد انها لا تفهم لعبة الاعلام. من الذي دفعها لذلك؟ سأل ميشال جلال.
- اختها لأنها على علاقة بالاعلام والاعلان بسبب عملها في بيوت ازياء راقية عند وكلاء يروجون اسماءٍ مشهورة.
- لكنها خطيرة فعلا، وليست مقرفة كما قلت لي.
- قد يكون ما قلته صحيحا، لكنها سوقية.
- وقد اصبحت مقدمة برامج.
- مسألة حظ لا أكثر ولا أقل. رأى احدهم موهبة في ضرباتها العشوائية تؤهلها ان تصبح ما تكون، أو حدث أمر آخر لا اعرفه. يمكنني ان استقصي لكنني لا اريد عمل ذلك، فقد خرجت تماما من حياتي، وظلت في ذاكرتي.
- يبدو لي انك متألم.
- انا إنسان ايضا.
- آمن من كل قلبك ان ما حدث مجرد ظروف إجتمعت ثم تلاشت. إرتفع كغيمة عما انت فيه.
- هكذا ببساطة.
- دع كل ما حدث وراءك وابدأ من جديد. الامور الجيدة والسيئة تحدث لكل الناس والمهم نظرتك انت إليها.
- ماذا تعني؟
- إنظر للأمر بايجابية.
- كيف؟!
- انك على الأقل نجوت من ورطة كان يمكن ان تستمر أطول. هي ليست حاملا ايضا.
لاحظ جلال وفريق عمله تحاشي معظم متعهدي الحفلات طلبه للغناء، وعدم إذاعة كليباته كثيرا في الفضائيات المتخصصة، بعد ظهور زوجته السابقة مذيعة، وقدّر هو انها ربما اصبحت عشيقة احد المتمولين في هذا الحقل، الذين على صلة وثيقة ببعض النافذين الذين يمكن ان يؤذوه فنيا، خصوصا بعد رفضه عدة مرات توقيع عقود إحتكارية لمؤسسات إنتاجية عملاقة عبر البحار، بدأت تستقطب عددا محترما من الفنانين والمطربين العرب، وتؤذي حتى الشركات الفنية الانتاجية اللبنانية الصغيرة، التي لم تجد بدا من التعاون معها كسماسرة صغار والسير في فلكها لتستمر في التواجد، بدلا من الإفلاس مثلما حدث مع بعض الذين لم يقدروا قوة الموجة النفطية العاتية، وإعتقدوا انهم معلموهم الذين علموهم ومهدوا لهم الطريق ودلوهم عليه ولا يمكنهم الاستغناء عنهم.
كان "عرزال الباشا" هو المكان الوحيد الذي ظهر فيه جلال غندور للغناء كل فترة وفي المناسبات، بعدما إختار طريق الغناء في بعض الدول العربية، ليتحاشى ضربات القادرين على إلحاق الضرر به، طالما كان في متناول اياديهم، وقد لفت أنطوان عزيز نظره إلى بعض متعهدي الحفلات في الدول العربية البعيدين عن تأثير الشبكات الانتاجية الضخمة، التي ضمت أو دجنّت أو دفعت صغارهم إلى الافلاس بدون شفقة، وقد اعطاه هؤلاء مفاتيح إتصال مع متعهدين في اليونان وفرنسا وبريطانيا، لديهم المقدرة على إقامة حفلات للجاليات العربية لمطرب في مثل وزنه، الامر الذي جعل جلال غندور يعيش في أمان بين تصفيق محبيه وارباح ألبوماته، وإنتشار اغانيه بين الناس بعد طباعتها بواسطة شركة إنتاج مصرية، وزعتها في الدول العربية عن طريق موزعين، قام احدهم بضربة معلم غير مسبوقة لم يتوقع احد نجاحها، عندما وضع كاسيتات اغاني ذاعت شهرتها له في محلات السوبر ماركت الكبيرة في دول المغرب العربي، حققت ارقام مبيعات كبيرة لأنها كانت في متناول الناس وهم يشترون طعامهم، بدلا من الذهاب إلى المحلات المتخصصة في بيع الكاسيت، جعلته يعيد إنتاجها مرتين في وقت وجيز للغاية، ويصب إهتمامه على سوق لم يتوقع مطلقا ان يكون معروفا فيه على هذا المستوى.
كانت أكبر نجاحات جلال غندور جماهيرا هي الغناء في القاهرة، حيث مهد الطريق له ضغينة بعض كبار رجال الدولة للشبكات الانتاجية والتلفزيونية الضخمة، بسبب محاولاتهم إبتلاع تاريخ مصر الفني ومحاولة توجيه مستقبله، مثلما حدث مع أرشيف عصرها الذهبي السينمائي، إضافة إلى الاعداد الغفيرة التي ذهبت لسماعه، ويستحيل جمع مثلها في إستاد أية دولة عربية، وقد إستمر غندور في هذا الطريق بسلاح فعّال هو المبلغ الذي يطلبه ويعتبر أقل مما يتقاضاه نجوم في مثل وزنه، الامر الذي أهلّه ليكون منافسا ومطرب عدة حفلات ومناسبات عديدة في مصر، كما كان الصديق الذي يطلب خبرة بعض الاعلاميين المخضرمين، واعلام الغناء المصري الذين مازالوا على قيد الحياة ليتعلم منهم، ما جعله يتخطى فعلا شبكة اخطبوط الاذى التي نُصب له بأياد معظمها خفية وصولية، لأن بعضها قد إستفاد منه ماليا ولم يزل يحمل المباخر نفاقا كلما رآه.
- اقترح عليك ان تجعل دينا مديرة اعمالك قريبا. قالت ملكة لجلال غندور.
- لماذا تريدي ترفيعها من سكرتيرة تنفيذية إلى منصبك؟
- لأنها قوية الشخصية ومعلوماتها كثيرة وتمارس عملها بحرفية وأفقها واسع، وبدأت تخلق علاقات جيدة جدا مع كل من نتعامل معهم. يستحيل ان تخدعك أو تسرقك.. وهي متعلمة.
- يا عمتي لم افهم بعد سبب طلبك. انت تعرفي ما تعلمه هي أكثر مني!
- سأكون مشغولة في الفترة القادمة، وغير قادرة على ملاحقة امورك خصوصا السفر.
- هل حدث بينك وبين ابي مشاكل بسبب سفركِ الكثير معي؟
- حدث امر لم اتوقعه مطلقا، ولا اعرف كيف تم بعد كل هذه السنوات.
- قولي عذرك الحقيقي لأفهم ما يحدث.
- ياعمتي، إعتقدت اثناء زواجي الاول وحتى اليوم انني عاقر، لأن الرجل في مجتمعنا يستحيل ان يُصاب بالعقم.
- وفي زواجك الثاني؟ سألها جلال وهم يبتسم محاولا إستيعاب ما ستقوله ملكة.
- ياعمتي.. انا حامل!
- بعد كل هذه السنوات؟
- يبدو انني استطيع الانجاب ايضا. وأكرر لك لا اعلم لماذا حدث هذا الامر بعد هذه السنوات. حتى الطبيب لا تفسير لديه.
- هذا أجمل خبر سمعته بعد وصولي للشهرة. إنني سعيد فعلا لأنني سأصبح اخا لمولود بيني وبينه ثلاثين سنة من العمر. سيكون لعبة البيت. على فكرة، هل جنينك ولد أو فتاة؟
- لا اعلم لأن معرفة ذلك تكون بعد شهور.
- قلبي يقول انه ولد.
- ابوك يشعر بالخجل فعلا.
- يشعر بالخجل؟ لماذا؟ مازال في خمسينات عمره. وانت في التاسعة والعشرين حسب ما اعتقد. قال لها وهو يضحك.
- المعلومة الاخيرة هي الأصح.
- كلاكما لم يزل فاعلا وقادرا على الانتاج. اقسم لك بأنني سأغني اغنية للأطفال.
كان جلال هو الوحيد في الاسرة الذي شعر بسعادة غامرة لا يشوبها امر يعكر صفاءها، لأن إبراهيم قال بأن اباه سيبدو كأنه جد الطفل، وسوسن ألقت كلمات بطريقتها المعروفة، ورددت عدة مرات انها فهمت رسالة إثبات ملكة لشبابها وخصوبتها وذكائها، لأنها اختارت ذلك الوقت للحمل بعدما سيطرت على ابيها وإسماعيل، ثم بدأت تخطط للإحتفاظ بكل ما يملكه ابوها واخوها المطرب، تأمينا لمستقبلها مع ابنها، أما جلال فكان رده الوحيد هو تقديم اغنية جديدة باللهجة المصرية هي "حياتي الجديدة"، وغنى فيها بلسان طفل يترقب حضور مولود جديد في اسرته، وكيف يجب ان يحبه ويلعب معه ويساعده ولا يغار منه، لأنه جزء من حياته الجديدة بين والديّن سعيديّن بكل اولادهما.
كان محمود بيضون في الرابعة والخمسين من عمره، بينما كانت ملكة في الثانية والاربعين عندما حملت، وقد شعر محمود بخجل لأنه اصبح جدا بعدما انجبت إبنته، وصار إبناه رجلين، لكنه من جهة اخرى كان يشعر بالامتنان نحو قدره الذي جعله سليما لا يشكو من أية مشاكل صحية خطيرة أو مزمنة، وبالدهشة لأنه كان يعتقد ان الرجل يصعب عليه الانجاب بعد الخمسين. أما ملكة فشعرت بأنها قد ظفرت معركة حياتية هُزمت فيها، وكانت تنظر إلى نفسها، كإمرأة عاقر إضافة إلى خسائرها المالية بسبب وضاعة زوجها الاول الذي إحتال وإختلس كل ما تملك، نظرة قدرية لا مجال لتغييرها، وعاشت راضية متفائلة لأنها لم تكن السبب، رغم ان ذلك لم يمنع رؤيتها الساخرة من تناقضات الحياة التي قد تضع علامات إستفهام يستحيل على إنسان ان يجيب عليها، وأمضت ملكة ايام حملها سعيدة، وكان إنتشاؤها يزيد مع تضخم بطنها حتى وضعت مولودها عمرو، وكان جلال الذي إقترح الاسم، بعدما هاذر اباه بقوله: "يجب إختيار إسم بعيد عن اسماء الانبياء هذه المرة، فربما تنجب زوجتك مطربا آخر".
- لكن لماذا تريد الهجرة؟ سأل جلال صديقه إميل الريس.
- هناك ناس تربح يانصيب، أما انا فقد ربحت الحياة في اميركا في قرعة الهجرة كما قلت لك.
- جوابك غير مقنع.
- جلال. السوق الاعلامية هنا اصبحت حربا خلفية مزعجة فعلا. تحولت إلى مافيات دخل فيها وكلاء بيع المنتجات انفسهم بانتاج مجلات يعلنون فيها، وهكذا يستفيدون مرة اخرى من الشركات العالمية.
- اعلم ذلك، فقد اصبح لكل منهم مجلته. لماذا لا تعمل معهم؟ لن اتضايق من عملك معهم ومعي ايضا. لماذا لا تتفرغ للعمل معي؟
- انا لست في اية دائرة لأحدهم.
- ولماذا لا تحشر نفسك في واحدة؟
- لديهم دوائرهم المغلقة ولا يسمحون بدخول إنسان غريب عليها.
- هل تريد..
- لا. سأعيش بجوار قنبلة موقوتة، ولا رغبة عندي في ان اقول لك بعد عدة شهور إنقذني.
- إميل. هذه نظرة شاعرية للأمور. هناك مافيات في كل الدنيا.
- ادركت في لحظة مباغتة وانا في زيارة لندن ان هناك خدمات للمواطن؛ رصيف .. هاتف.. كهرباء على مدار الساعة.. طريق معبّد.. مواصلات عامة.. شعب إنجليزي واحد.. هذه الامور غير واردة في هذا البلد الذي اصابته لعنة. حياتنا مرهِقة فعلا من زواياها كافة. انا حقيقة اريد الهجرة من أجل اولادي.
- لكنك عملت بكفاءة من اجل مجلتك.
- تعبت من إستجداء الناس، ثم ان اصحاب هذه المجلات اقنعوا شركات الاعلانات ان الشكل وفخامة الورق والطباعة أهم من المضمون. هذه في الواقع مواصفات مجلاتهم لا أكثر أو أقل.
- كيف؟
- كان مضمون المجلة زمان وقوة انتشارها هو الذي يبيعها إعلانيا لأنها مطلوبة في السوق، واليوم فخامة الورق والطباعة أهم.
- ولماذا لا يفعل ذلك صاحب مجلتك؟
- لأنه غير ملّوث اولا، كما واجه عدة مصائب في حياته جعلته لا يملك المال اللازم.
- ولماذا لا يبيعها؟
- تآمروا عليه ولا احد يريد الشراء سوى بثمن يستحيل ان يقبله هو.
- هل وصلت الامور إلى هذا السوء في مجالك وحياتك؟
- أسوأ. هل تتخيل ان موظف إستقبال الفندق في لندن لم يفهم عبارة "يبدو ان الكهرباء إنقطعت"، عندما لم يستطع إرسال فاكس مني إلى لبنان. إننا نتحدث بلغة لا يفهما أهل العصر.
- اين تنوي ان تعيش في الولايات المتحدة؟
- عندي اقارب في ميشيجان.
- على بركة الله. انا لا انسى بتاتا ما فعلته من اجلي. لم انس الصدفة المذهلة التي جعلتني أغني اثناء وجودك في البناية المجاورة لنا.
- فعلت ما فعلته وكأنني اتنصت إلى نداء داخلي. إتجهت من شركة الاعلانات إلى دكانكم كأن احدهم نوّمني مغناطيسيا وامرني بعمل ما قمت به. لا انسى ذلك أو انساك مطلقا.
لم يصدق احد من الفضوليين في مطار بيروت، حول جلال غندور واسرة يرافقها عبر صالة الوداع ودوائر الامن العام ان المشهورين يبكون. فقد أصر جلال غندور ان يصطحب إميل الريس مع اسرته يوم سفرهم، وسمح ضابط سوري، صديق لجلال، في مطار بيروت ان يرافقهم حتى باب الطيارة، وأمر بعض رجاله بمرافقة جلال حتى باب السيارة التي ستقله بعد ذلك، وكان جلال دامع العينين متأثراً بهجرة صديق وضعه على طريق الشهرة، وتمكن من مغادرة بيروت بعدما قدم غندور دعما ماليا له. لم يتوقع إميل ان تطلب السفارة منه وديعة مالية قبل تعطيه تأشيرة الهجرة، ليثبت انه قادر على الانفاق على عائلته حتى يجد عملا في الولايات المتحدة. وقد ظلت مشاعر غندور مضطربة عدة اسابيع بعد هجرة صديقه، وإحتبس صوته وهو يرد على أول هاتف له من ميشيجان، وكان يتعجب احيانا من انه لم يلمح ولا مرة نظرة غيرة في عيني إميل كلما إرتقى سلم الشهرة. كان يستقبله دائما بعينين ضاحكتين، وقلب لا يعرف سوى الصفاء، وعقل يحثه بإستمرار على حصاد المزيد.
رافق إميل الريّس وهو في الثلاثين من عمره، إسماعيل بيضون الذي كان وقتها في العشرين، حتى اصبح جلال غندور المطرب المشهور، وكان غندور في بداياته الفنية يعتقد بعد خبرة التحدث مع الزبائن في محل ابيه انه لبق يستطيع التحدث مع الناس، حتى إلتقى بإميل وادرك انه قادر فقط على الوقوف بثبات امامهم للغناء، ويلزمه الكثير لينجج اجتماعيا، فطلب منه ان يعرف أكثر فن المجاملات، فأخذه إميل معه إلى الحفلات التي يحضرها عند إطلاق أي ماركة ثياب أو عطور أو منتجات اخرى جديدة في السوق، وتعلّم غندور الكثير من "بروتوكولات المجتمع العُلوي" مثلما كان يُطلق عليه الريّس، إضافة إلى آداب موائده وكيفية التعامل مع ادوات الاكل، والجلوس والوقوف والتحية وكلمات الترحيب والتعارف بين اناس لا يعرفون بعضهم بعضا، وساعده على التعلم عدم ذيوع شهرته بين الناس في تلك الايام، وتصرف إميل نفسه كما لو لم يكن جلال بجواره، فقد تعامل مع المواقف بطبيعية، وكان يترك غندور يؤديها بلمسته الشخصية.
- بدأت اعجب بك؟ قال إميل الريّس لغندور ذات يوم.
- لماذا؟
- لأنك تملك حاسة لا يملكها معظم الناس.
- وما هي؟
- يمكنك ان تطلب شيء من شخص لا تعرفه فيلبي طلبك.
- هل تسمّي ذلك حاسة؟
- هي السابعة بعد التنبؤ، وأمي كانت تقول عن هؤلاء الاشخاص ان طلباتهم مستجابة عند القديسين.
- هل تعتقد انك تملك الحاسة نفسها؟
- لا.
- وماذا ايضا؟
- اكيد تملك كاريزما؟
- على فكرة، انت لا تكره من يكرهك؟
- من قال لك ذلك؟
- قال موسوليني: اعداء كثيرون شرف كبير. وانت تطبق ذلك من حيث لا تدري.
- حقيقة انا لا وقت عندي لأكره. وقتي للعمل فقط.
كان إميل الريّس ايضا وراء عدة مفاتيح جعلت غندور يحّل بعض ألغاز حكاية نجاح زوجته السابقة في الوصول إلى العمل في الاعلام، ثم إنطلاقتها في هذا المجال حتى الوصول إلى نجوميتها التي لم تستطع اقلام النقاد ان تجعلها تأفل، فقد بدأوا هجومهم عليها في البداية من زاوية حِرفية، ثم تناسى معظمهم ما كتبه لأسباب مالية أو ضغوط مهنية، وجعلوها صاحبة إسلوب مميز لا تقلد فيه احدا، وكف الباقون عن هجومهم عندما وجدوا انها شخصية تُنفذ ما رُسم لها بعناية فائقة ويُراد لها الاستمرارية كما هي، وتكفلت هي بعد تجاوز مرحلة مراهقتها في الاعلام، بفهم لعبة موازين القوى وألغام طريق الشهرة، التي لا تشبه مثلها في مجالات الاعمال الاخرى، لأن إنفجاراتها تصيب المشهور نفسه وتجعله حكاية على لسان المجتمع، فأمنّت المحافظة على نجاحها واستمراريتها حتى شيخوختها، بعد تأسيس شبكة خدمات نسائية، إضافة إلى عرّاف مغمور أوصلته إلى الشهرة بعد ان قرأت تنبؤاته للمشاهدين في بداية سنة جديدة، وتصادف ان تحقق بعض ما تنبأ به خصوصا اغتيال شخصية لبنانية سياسية، ثم إستضافته ليتنبأ لمطربين ومطربات وسياسيين بعد ذلك، ما جعل في حوزتها معلومات وخصوصيات منه، يندم من يقترب منها بسوء على ما حاوله، وجعلها في الوقت نفسه على مسافة قريبة جدا من سياسيين نافذين، ربحت دعمهم بعد تقديم خدمات نسائية سرية للغاية لهم، ممن تديرهن ويعرفن كيف يحفظن الاسرار.
- من الغباء التعامل مع الاساليب غير الشريفة بشرف. كانت ترد بتحد على المقربين الذين يستفسرون منها عن حقيقة ما يسمعون عنها.
- وهل تناولك جلال غندور بالسوء؟ قالت لها امها ذات يوم، بعدما إستطاعت ان تدرك ما كان خفيا عنها في علاقة إبنتها بزوجها السابق.
- كنت صغيرة جدا على فهم أساليب الناس ايامها، ولم احلم مطلقا بما وصلت إليه، أو اتخيل وقع كلماتي على المجتمع. كان ما قلته مجرد إنتقام.
- وماذا عنه؟
- لا اعرف وقعه عليه فهو شخص قادر على الاحتفاظ بمشاعره لنفسه.
إذا كانت نصائح ميشال سعد اثناء ازمة ما بعد إنفصال غندور عن زوجته فلسفية، اعانته على تقبل ما حدث نفسانيا، فقد كانت كلمات إميل الريّس أفضل ما جعله يواجه الواقع ويتعامل معه كما شرح له، بأن الملاكم يجب ان لا يغتاظ لأن احدهم هزمه، بل يعرف اسباب هزيمته، حتى لا يُهزم مرة اخرى امام الخصم نفسه في لقاء آخر، بل يربح المباراة على الأقل بالنقاط بعد توجيه أكبر عدد ممكن من اللكمات إلى جسمه. عرف جلال غندور حقيقة واحدة هي انهما كانا من المستحيل ان يعيشا مع بعضهما بعضا، ولذلك فتح صفحة جديدة تماما، وبدأ يكتب فيها ما يستجد في حياته، متجاهلا ما حدث معه حتى اصبح ذكرى بعيدة لا تؤذي.
- هل تعلم انك الوحيد الذي اتمنى إستضافته في برنامجي؟ همست مي لجلال اثناء مهرجان للأغنية جمعهما لأسباب مختلفة.
- هل يقبل صاحب الشبكة التي تعملي فيها هذا الامر؟ سألها جلال مشيرا بطريقة غير مباشرة للأذى الذي لحق به سابقا.
- إذا كنت لا تمانع. قالت له وقد فوجئت بجوابه، مثلما باغتها بمصافحته لها بطريقة عادية عندما إلتقى بها صدفة ومدت يدها لتصافحه.
- لا امانع مطلقا.
- لماذا؟
- انظر إلى الامر مهنيا ولا انظر إليك كزوجة سابقة ستجري حوارا معي.
- رغم ما قلته عنك.
- هذه وجهة نظرك. لا تنسي ما فعلتيه ايضا!
- انا كفيلة بإقناع صاحب المحطة، وانت من يكفل عدم تراجعك؟ كرامتي على المحك.
- عجرفتك على الأصح. ردي قبول نهائي. إتصلي هاتفيا لتحديد الموعد فقط. سأجيب بنفسي إذا كنت موجودا.
- وماذا عن هاتفك الخلوي؟
- لا اعطيه للإعلاميين.
- هل وقعت في حب بعدي؟
- انا لم احبك، واعتقد انك لم تحبيني ايضا.
- هذا صحيح. هل تعلم انني بدأت اتعرف عليك بعد طلاقنا؟
- ....
ذهب جلال غندور إلى المقابلة التلفزيونية التي بُثت على الهواء مباشرة، بعد ان سأل الريّس هاتفيا في ميشيجان عن السؤال غير المتوقع الذي ستسأله مي، ويمكن ان يسبب له الارتباك، ورّد الريّس انه يجب ان يتوقع السؤال غير المتوقع من المتصلين، لأنها ستكون في منتهى التحفظ معه، خوفا من لحظة إنتقام على الهواء لا تستطيع تداركها، كما طلب منه إرسال شريط فيديو لهذا اللقاء.
كان غندور ثابتا مبتسما اثناء الحوار، على اتصال مباشر بعينيها اللتين تصلحان لتمثال شمعي، حسب ما كان يقول لنفسه دائما قبل قراره النهائي بالانفصال عنها، مدركا تماما لحيوية وأهمية السمّاعة بالغة الصغر في اذنها لأنها تصلها بمخرج ومعّد البرنامج، اللذين يهمس لها كل منهما بملاحظاته، خصوصا المعّد الذي يجعلها تستطرد في موضوع قد تجهله، وتطرق مضيفها إليه عفوا. كما لم تستخدم هي لأول مرة إسلوبها السوقي في إستفزاز مضيفها، واجاب غندور على اسئلة المشاهدين والمتصلين كافة بإختصار غير مخل، واعطى سبقا صحافيا لها عندما صرّح بعنوان وكلمات اغنية سيؤديها في ألبومه الجديد، وكان في منتهى الكرم عندما غناها بدون آلات موسيقية لإحدى المشاهدات بعد طلبها، وقد لاحظ موظفو غرفة التحكم انهما لا يتحدثان مع بعضهما بعضا، أو يتبادلان عبارات المديح والمجاملة، كما هي عادة "ضيوف الهواء" مع المقدمين والمقدمات. كانت هي تقرأ فاكسات المشاهدين أو تراجع ما بقي من اسئلتها، بينما كان هو يتأمل الاستوديو أو يشرب من زجاجة ماء أحضرها معه، أو يدوّن بعض ملاحظات المتصلين، اثناء الفقرات الإعلانية التي تزايدت بشكل كبير، ما جعل المخرج يطلب إضافة نصف ساعة "هواء" اخرى قبل بدء البرنامج، من صاحب المحطة على هاتفه الخلوي الخاص، الذي ابلغ رئيس وحدة البث بموافقته. وقبيل نهاية البرنامج بدقائق معدودات فوجىء غندور بنبوءة إميل الريّس تتحقق، عندما سمع احد المشاهدين يسأله عما إذا كان اللقاء التلفزيوني تمهيدا لعودتهما إلى بعضهما بعضا، وأجاب غندور، وهو يلاحظ مي تنصت بتمعن إلى المستمع ثم تبتسم للسؤال، بأن السعادة التي تبدو عليهما هي سعادة اداء عمل بشكل حرفي يقبله الناس، وليس لأنهما سيعودان لبعضهما، وغادر مبنى وحدة البث التلفزيوني بعد مصافحة الجميع بمن فيهم زوجته السابقة، التي اصرت ان توصله إلى الباب الخارجي.
- رأيت البرنامج كمشاهدة عادية. كنت بالفعل جيدا. قالت له ملكة.
- جيد فقط.
- مقنع لبق سريع البديهة. لكن من اين اتت هي بهذه الفصاحة وردة الفعل السريعة مع المشاهدين؟
- سيدنا جبريل الموجود في غرفة التحكم. قال جلال وهو يشير إلى اذنه ويضحك.
- هل السماعة لتعليمات المخرج أو المعّد. قالت ملكة وهي غارقة في الضحك على رّد غندور.
- الاثنان احيانا.
- هل احسست بذلك اليوم؟
- انا اعرفها على حقيقتها. اميّة ثقافيا لا تستطيع قول ربع ما قالته.
- لا تنسى انها إكتسبت خبرة من عملها.
- لكن جوهر الانسان نفسه يظل كما هو.
- انت لا تحبها.
- انا على يقين ان الاذى سمة من سماتها. برنامجها الجديد هذا قائم على تحدي ضيفها، وكل الناس تعرف سوقية اسلوبها، لكن تغيّر ذلك اليوم. كان الريّس على حق.
- هل إتصلت به قبل البرنامج؟
- نعم. كنت متوجسا من اللقاء.
صمتت ملكة بعد جواب غندور لأنها كانت تعرف خلفية ردّه الاخير، وما فعلته زوجته السابقة في نفسه، رغم انه خرج من المحنة سالما، كما بدا لمن حوله.
كان جلال غندور من الذين لا ينظرون لصورتهم كثيرا في المرآة، وحتى اثناء حلاقة ذقنه يوميا كان يركز على ما يفعله، لكنه احيانا كان يتأمل صورته ويقول في نفسه انه من المباركين، لأنه وصل إلى ما هو عليه، بينما غيره في العمر نفسه مازال متعثرا حتى في إستئجار شقة لكي يعيش فيها مستقلا. كما كان احيانا يستعيد صور حياته ولا يصدق ما حققه، بعدما كان مجرد تلميذ في اول عام جامعي، يغني بخمسة وسبعين دولار كل ليلة سبت حتى اثبت جدارته، ثم إرتفع إلى اجر أكبر وشهرة بدأت تتسع، جعلته يفكر في ترك دراسة الاعمال في الجامعة لأنها لن تفيده في مشواره الفني، لكن إميل الريّس نصحه بالاستمرار حتى النهاية، لأن وجوده في الجامعة سيجعل أكثر من ألفي عائلة تتحدث عنه وتراه، إضافة إلى ان الاساتذة سيتساهلون معه بالنسبة إلى حضوره الذي قد يكون متقطعا في المستقبل، وإمكانية حصوله على فرص غناء من البيئة الجامعية.
طالما تذكر جلال غندور كيف بدأ مطربا في "عرزال الباشا" يغني اغاني غيره من المشهورين، لأنه لا يملك المال لشراء كلمات اغنية ولحن لها، وقد نصحه أنطوان عزيز بعدم التسرع في تحقيق هدفه، لأن شراء اغنية واحدة لا يكفي ولا يصنع شهرة على مستوى كبير، والأفضل ان يتريث حتى يستطيع شراء عدة اغاني جميلة، ينتجها على كاسيت وسي دي، مازال العمل مستقلا يجعله راضيا، لأن هذا العمل سيكون جواز سفر عبوره إلى آفق أكبر.
لا يستطيع جلال ان ينسى غبطة اللحظة التي سمع فيها صوته مغنيا، وهو يصدر من سيارة في احد المواقف، سرعان ما رفع صاحبها صوت آلة التسجيل، لكي يقول له بشكل غير مباشر انه من المعجبين به عندما لمحه يتجه إلى سيارته. كما لا ينسى أول إتصال هاتفي جاءه على "العرزال" طلب فيه المتحدث منه ان يغني في احد مهرجانات صيف بلدة بيت الدين، وسعادته الفائقة وهو يواجه جمهورا لا يأكل في مكان مفتوح وخلفه فرقة موسيقة كبيرة تعزف. لم يدر لماذا احس في تلك الليلة ان البدر قريب جدا من الارض، لدرجة انه عكس صوته برجع آخاذ للغاية أثرّ تأثيرا كبيرا على الحاضرين، الذين غنى بعضهم معه مثل كورس بدون ان يطلب منهم، ما جعله يتسلطن ويؤدي إفتتاحية الآذان وسط تصفيق الحاضرين.
تربى جلال في منزل يبيع صاحبه البيرة والخمور لكنه لا يشرب، وقد إنعكست تلك الخصلة الابوية عليه فلم يكن يشرب لينتشي كما هي حال بعض اهل الطرب، فقد كان يشعر بالانتشاء وهو يغني، وكان من الذين ينسون الدنيا وما فيها لحظة غنائه، ومن الذين يذهبون للاستوديو للتسجيل وهم في فرح بالغ لا يشعرون بمثله في كل ما يفعلوا في حياتهم. ورغم انه كان يغيب تماما وهو يستمع إلى الموسيقى من خلال السماعتين على اذنيه في الاستوديو لكي يغني، فقد كان يفضّل دائما الغناء امام فرقة موسيقية تنفعل معه ومع الناس، وكان على قناعة تامة بأن الاغنية امام الناس تكون أجمل من تسجيل الاستوديو. كما كان مواظبا على ممارسة هواية العزف على الاوكورديون بشكل شبه يومي في بيته، داخل غرفة صُممت خصيصا بإشراف ميشال سعد لتكون مكان إستماع وعزف لا يزعج الجيران. وعاش جلال غندور في غمرة نجاحاته الفنية المتواصلة، في دنيا تضحك من حوله ويبتسم لها بعد ازمة زواجه الفاشل، وكان يحاول تناسي ندوب حياته كأعزب بالعمل والسهر مع الاصدقاء، ويتذكر احيانا مسارات حياته التي اوصلته إلى ما هو عليه، وعلاقاته الاجتماعية التي دخل فيها بإختياره أو مرغما.


5


قيل لزاد قبل ان تقدم فقرتها الراقصة في احد المطاعم الجبلية الكبيرة ان جلال غندور بين الحضور، وألمحت هي إلى وجوده قبل ان تبدأ الرقص وطلبت منه الحضور الى المسرح، فذهب بين تصفيق الحاضرين الذين إعتقدوا ان زاد سترقص على انغام اغنية من اغانيه.
- انتم تعرفوني مطربا. لا جديد في الامر، لكنني سأعزف الليلة تحية لزاد، وهذا هو الشيء الجديد.
صفق الجمهور بينما جلال يطلب من عازف الاوكورديون آلته، وحملها ووقف مع الفرقة الموسيقية وهو يلمس بأنامله مفاتيحها، ولم تشك زاد لحظة في انه يبحث عن احد المفاتيح التي تعزف جملة موسيقية مسجلة على الآلة الكهربائية، لكي يداعب بها الجمهور ثم يبدأ الغناء.
- "موال الهوى"؟ وبعد ذلك "ليلة حب" سأل غندور زاد هامسا بعد ان اقترب منها.
- ...
- "موال الهوى" و"ليلة حب"؟ سأل غندور قائد الفرقة الموسيقية، عندما ادرك ان زاد لم تصدق انه قادر على عزف هذه المقطوعة ومقدمة أغنية أم كلثوم واكتفت بالابتسام، فأومأ المايسترو موافقا، لكن نظرة عيني الرجل وزاد كانتا تفصحان عن عدم تصديق مقدرته على العزف ايضا.
جلس جلال مكان عازف الاوكورديون بقامته اللطيفة وعوده النحيل، بينما كانت زاد تتأمله لأنها تراه شخصيا لأول مرة، ولم تصدق ان هذا الانسان قادر على تحريك مشاعر آلاف الناس بصوته، لأنه بالغ البساطة في ملابسه وتسريحة شعره، ولم يكن لديه في تلك الليلة سوى ساعة أنيقة غالية ملفتة للنظر، وبدأ جلال عزفه وبعد لحظات معدودات فقط لمحت زاد مايسترو الفرقة يميل برأسه ويصغي بكامل مشاعره تماما، ثم جلس بعد ثوان بشكل طبيعي وبدأ يعزف جملة موسيقية هامسة على كمانه كخلفية لما يعزفه جلال، الذي بدا واضحا لها انه عازف اوكورديون محترفا وليس هاويا، وإحتارت هي ماذا تفعل وهو يعزف "موال الهوى" منفردا، لعلمها بغيرة الفنان من أي إنسان يسرق الاضواء منه، وإكتفت بالتمايل بعيدة عنه على اللحن، كفرس عربي أصيل يتأهب للرقص، لينال هو إهتمام وتصفيق الجمهور الذي صمت تماما، وتوقفت حتى حركة الجرسونات بين الطاولات، لكنها لمحته وهو يطلب منها بعينيه ان ترقص فإقتربت منه ووقفت تتمايل بالطريقة نفسها، وتجعل وشاحها يلمس كتفه بطريقة فيها دلال ومرح.
كان غندور يعزف على غير عادة عازفي الاوكورديون. كان يحرك كتفيه ورقبته بشكل يفصح عن إندماج كامل مع آلته، وبدا إنه يستعمل قدمه اليمنى كحركة لا إرادية تساعده على ضبط ادائه والانتقال من جملة موسيقية إلى اخرى، ولم تدرك زاد لماذا نقلها عزفه فجأة الى ماضيها وهي تلميذة معدمة تذهب سيرا على الاقدام إلى مدرستها البعيدة، وكادت دمعة ان تنحدر من عينيها، وهو يسترسل في جملة موسيقية والمايسترو يقول له استحسانا: ما شاء الله. وعندما إنتهى من "موال الهوى"، بدأت عازفو الات الكمان مباشرة بعزف مقدمة "ليلة حب" وقدمت هي رقصة لم تتدرب لترقص على موسيقاها من قبل، بإنسجام تام وهي لم تزل تغالب دموعها ولا تعرف السبب، وطلب منه الجمهور بشكل حماسي ان يستمر عازفا اثناء التابلوهات الاستعراضية التي تقدمها زاد، فإستمر معها طوال فترة وجودها على المسرح.
- انت تعرف قراءة النوتة ايضا، قال له المايسترو وهو يشد على يده في نهاية وصلة زاد الراقصة.
- مهنة قد ارتزق منها إذا لم أعد قادرا على الغناء. قال جلال وهو يبتسم.
كانت زاد إمرأة ذات بشرة وردية، يزُين رأسها شعر جميل طويل كثيف بني فاتح لم تفكر بتغيير لونه مطلقا، وصاحبة عينيّن ضاحكتين داكنتي الخضرة وأنف دقيق للغاية. ذات حجم صغير يُدهش الذين يروها بعيدا عن شاشة التلفزيون التي تظهرها أطول وأضحم، لكن ذلك الجسد كان يفيض انوثة في تفاصيله وزواياه وكل ما تفعل صاحبته، التي تمشي وتتحدث وتنظر وتتنفس كأنثى لا إفتعال في حركاتها وخطواتها، وليس مجرد إمرأة.
كانت إبتسامة زاد داخلية تعكسها نظرة عينيها قبل ان تكون على شفتيها، لأنها تؤمن ان كل إنسان وُلد ومعه حكايته، وكل ما يفعله في حياته جزء منها ومن ظروفه التي يتحرك في نطاقها، لذلك يجب ان يكون الانسان سعيدا طالما كان قادرا على العمل، غير آبه لما يحقق من اموال. وقد إنعكست هذه القناعة العقلية على سلوكها، فكانت تتفتح كزهرة عبّاد الشمس امام عملها والناس الذين يحبوها، وتنكمش إذا واجهت الاساءة أو الجحود، وتعود إلى طبيعتها بعد عدة ايام أو ساعات، لأنها في جملة الناس الذين لا يعيدهم امر خارجي، أو قوة إقناع الناس الى طبيعتهم لو تضايقوا، بل كيمياء دمهم نفسها.
وُلدت زاد، أو عنايات حسين الامين حسب شهادة ميلادها، في اسرة شيعية جنوبي لبنان، تنتمي إلى طبقة الفلاحين الذين يملكون قطعة ارض صغيرة حول مسكنهم، هي مصدر رزقهم واستقرارهم، وكان طريق مدينة صور الرئيسي الذي تشرف ارض اهلها عليه من مكان مرتفع، قد زرع في وجدانها بطريقة غامضة لا تفسير لها، ان مشوار حياتها مقدور بطريق طويل ستكون سنواتها وهي صغيرة مجرد صور تتباعد فيه، مثلما تتباعد المَشاهد لمن يجلس في المقعد الخلفي داخل سيارة منطلقة على ذلك الطريق السريع، وهو ينظر وراءه من خلال الزجاج. وكانت كفتاة صغيرة تحدس ان الزواج هو الذي سيغير حياتها، خصوصا انها كانت تسمع عن زيجات كثيرة تتم في فصل الصيف للمغتربين اللبنانيين الذين يأتون في عطلاتهم من افريقيا وغيرها من دول الاغتراب اللبناني، ويبحثون دائما عن فتاة من بلدهم ليتزوجوها. كانت تسمع عن اقارب لها في البرازيل ونيجيريا وبنين، وتتوقع ان يأتي احدهم ذات صيف ويأخدها زوجةً حين تبلغ سن الزواج، على طريق صور إلى مطار بيروت.
لكن هذا الاحساس الغامض تبدّل إلى شعور مبهم، كان يتسلل الى خلايا جسدها وهي في بداية مراهقتها، وهي تسمتع إلى إيقاعات الموسيقى الشرقية اثناء حضور حفلات الاعراس، ولم تكن تدري لماذا تتخيل نفسها الراقصة التي تزف العروسيّن وليس العروس نفسها! كانت كل خلجة في احاسيسها تهتز، وكل عضلة في جسمها تنبض وهي تستمع إلى الموسيقى الشرقية الراقصة، ولم تدر لماذا همست باسرار وجدانها غير المعقولة لصديقة مقربة لها، لكنها لم تجد سوى عدم التصديق في عيني صديقتها الدرزية، التي استعارت عنايات اسمها في ما بعد عندما بدأت حياتها الفنية.
عندما رأى جلال غندور زاد لأول مرة، كان محاصرا بمحبة المعجبين واهتمام اهله واصدقائه المقربين، لكنه كان يعيش في فراغ داخلي، لا صوت فيه غير اغانيه المفضلة عندما ينفرد بنفسه، ومن الامور غير المفسرة أنه تكلم مع زاد في تلك الليلة وعزف لها، ولم يشعر، كدأبه مع المرأة، بعينيه توجهان رسالته إياها فتستجيب التي امامه لها أو تتغاضى عنها، وفي الحالتين تنزلق من ذاكرته بمجرد مرورها. تحدث مع زاد بشكل طبيعي، وربتت انوثتها الفائقة في كل ما تفعل وتقول على احاسيسه، ولم ينسها بمجرد خروجها من المسرح، وعودته إلى المائدة التي يجلس إليها مع بعض الاصدقاء، وفقا لشعوره المبرمج اللاارادي نحو الانثى الجميلة.
وجد جلال نفسه بعد ذلك يبحث عن زاد في صور المجلات الفنية، ويسأل عنها بعض العاملين في المجال نفسه بشكل غير مباشر، وكان يشعر ببركة تحل عليه كلما فكر فيها، لم يشعر بها منذ ان وقف في عرزال الباشا مطربا لأول مرة في حياته. لم يدر لماذا حل طيفها على ذاكرته ولم يغادرها، وتعمد الذهاب مرة اخرى وحده إلى المطعم الجبلي الكبير نفسه وجلس في زاوية بعيدة ليشاهدها ترقص، بعد ان طلب عدم الاشارة إلى وجوده، وتأثر كثيرا برقصة قدمتها على انغام الفلامنكو، ذات الايقاعات القوية ونهايات الجملة الموسيقية المفاجئة وبدايتها الحالمة على اوتار الجيتار التقليدي. كانت الموسيقى توزيعا حديثا لأغنية "يامسافر وحدك" لعبد الوهاب، مسجلّة لم يعزفها عازفون، وقد مزجت زاد حركات راقصة الفلامنكو الإسبانية القوية بأداء الراقصة الشرقية المتهادي، بشكل آخاذ للغاية وإنسجام داخلي عميق وحيوية ممزوجة بالحنان والدلال، جعل الحاضرين يصفقون لها بحرارة كبيرة أكثر من دقيقة، كما نهضت إمرأة وزلغطت لها، وهي منحية مبتسمة كفراشة ضمت جناحيها من إرهاق حلّ بها بعد تحليق طويل.
ثم جمعهما لقاء آخر بدا كأنه خيوط صدفة متعمدة تحيكها الظروف ببراعة ليلتقيان في احد ستويوهات الانتاج الفني، بعد تسجيله لأغنية، وعرف منها انها تتابع إنتاج شريط فيديو يجمع عدد من الراقصات، تنوي تسويقه في مراكز الرقص التي تعلّم الرقص الشرقي في بعض الولايات الاميركية، إضافة إلى عرضه في المحلات التي تبيع المنتجات العربية.
- مشروع جيد. هل لديك من يدير هذا العمل في اميركا؟ سأل جلال زاد.
- اخي يعيش في لاس فيجاس ويملك محلا لبيع المشغولات الذهبية الشرقية، ويستطيع تسويق هذا العمل من خلال علاقاته المتعددة.
- احلم بالغناء في اميركا. هل يستطيع اخوك تدبير إقامة حفل لي هناك؟
- التواجد الفني العربي ضعيف جدا هناك ويقوم على المجهود الفردي سواء من الفنان أو المتعهد.
- لكني سمعت عن لوبي عربي فاعل هناك.
- لوبي عربي؟ فاعل؟!
- عربي وفاعل. ما الغريب في ذلك؟
- اين؟ في اميركا؟ هل تصدق هذه الاشاعة؟
- اشاعة؟
- هي كذبة لا اشاعة لو شئت الدقة. لا لوبي عربيا في اميركا، سواء لجهة الاعلام أو الفن. الصحف تُعرض بالمجان في محلات البقالة، وهواة ومحترفون يكتبون مجانا فيها للوجاهة أو إثبات الذات داخل المجتمع العربي. لا توجد اذاعة عربية أو محطة بث تلفزيونية عربية ايضا. وعلى هذا المنوال السياسة والصناعة والتجارة.
- وكيف يتم تمويل المطبوعات؟
- من المعلنين العرب وهم الاطباء والمحامون واصحاب الحرف والمحلات، والاعلانات الرسمية الحكومية التي تخاطب العرب وهي قليلة جدا. واحيانا من السفارات لأسباب معروفة، إضافة إلى نشر صور الاعراس وما إلى هنالك من مناسبات اجتماعية.
- والفن؟
- في المطاعم. مطربون وعازفون وراقصات معظمهن اميركيات وروسيات. الجميع هواة يعملون في مجالات اخرى.
- فقط.
- حسب معلوماتي، الاحتراف هناك في هذا المجال لا يُطعم.
- لكن بعض المطربين العرب يسافرون هناك ليغنوا.
- هذا صحيح. رحلة لجمع المال أو لإثبات الوجود فقط؛ غنّت فلانة في اميركا.. وفلان عاد من لاس فيجاس بعد رحلة ادهشت العالم. واحيانا يكون الغناء بعد أفول المطرب أو المطربة هنا. يغنون لمهاجرين يجمعهم بهم تاريخ وذكريات وليس مستقبلا، مثل المطربة الإيرانية كوكوش وغيرها من مطربين هاجروا من إيران بعد وصول الخوميني لأن الغناء حرام! كوكوش تغني في فيجاس.
- لديك بصمة لاذعة في الكلام لم اتوقعها. يبدو انك متعلمة ايضا.
- وسياسية ايضا. انت لا تعرفني! المال والشهرة والاستقرار والمستقبل هنا. سأناقش امنيتك مع اخي واتصل بك. لعله يعرف احد المتعهدين المناسبين.
- على فكرة. شاهدتك ترقصين على انغام الفلامنكو.
- حقا. لماذا لم يقولوا لي؟
- انا طلبت ذلك.
- هل اعجبتك؟
- شعاع من الفن الكامل الموحي.
- هل تتكلم بجدية؟
- منتهى الجدية.
- ...........
- لماذا لم نتقابل منذ سنوات ونحن نعمل في المجال نفسه؟
- هل تمنيت ذلك؟ سألته زاد وهي تبتسم.
- من كل قلبي.
- قبل زواجك أو بعده؟
- في أي لحظة من عمري. وانتِ؟ سألها جلال وقد أسعده سؤالها تماما.
- انت رجل لطيف فعلا. هذا رقم هاتفي الشخصي الذي يعرفه المقربون جدا فقط . لا بطاقات عمل معي حاليا. قالت زاد وهي تكتبه على ورقة صغيرة.
- ما هو أنسب وقت للإتصال بك؟ سألها وهو يقرأ ارقام الهاتف.
- دائما.
- دائما؟ سألها جلال وهو يقبّل الورقة قبل ان يضعها في جيبه.
- لماذا تقبّلها؟ سألته وهي تضحك ضحكة خفيفة.
- لانك لمستيها.
- وهل ستقبّل كل شيء ألمسه؟ لن تجد وقتا حتى للأكل!
- ليس كل شيء. قال لها وهو يضحك.
- على فكرة انت مثلي لا تمشي ومعك بطانة أو حراس شخصيين.
- عندي مجموعة صغيرة من الاصدقاء يذهبون معي إلى الحفلات، وبعد ذلك نذهب إلى مكاننا المفضل لنتكلم ونأكل حتى الفجر. أغلب شؤوني افعلها بنفسي. لا اتضايق من فضولية الناس.
- ولا خوف على حياتنا ايضا. لماذا حرس خاص؟
- انت سياسية لا تنسي.
- سياسية هنا. قالت زاد وهي تشير إلى رأسها.
كان جلال يدخل في هالة فكرية وردية كلما تذكّر زاد، بعد عدة لقاءات جمعتهما لتحضير حفل مشترك يجمعهما في لاس فيجاس لمدة ثلاثة ايام متوالية، بعد عودته من الجزائر. كان يشعر وهو بالقرب منها انه بحاجة شديدة إلى حضورها في حياته، وانه سعيد للغاية ممتن لصوتها الانثوي المميز سواء هاتفيا أو واقعيا، وهو يتدفق في خلاياه فيعطي له قوة دفع لا يمكن إنكارها، أو تجاهل شغفه بها، لكنه لم يفكر بتاتا بالزواج منها.
اوحت زاد له ببعض احلام اليقظة، التي لم يعرفها منذ ان وطأة قدماه عالم الشهرة وزادت ارصدته في البنوك، لأن حياته نفسها تحولت إلى حلم جميل لا يمكن تخيّل أجمل منه، وجعلته إهتماماته بعيدا تماما عن أية تمنيات اخرى، سوى ترديد الناس لأغانيه، وطالما شعر بصوتها يخدره وهي تتحدث، ورأى نفسه، وهو بعيد عنها، تتلصص على لحظاتهما معا وهما يناقشان مع بعض الناس إستعدادات سفرهما وترتيب إقامة الحفلات في لاس فيجاس، ولاحظ ان لديهما بعض الامور المشتركة مثل عدم شرب القهوة أو الخمور وتفضيل اكل السمك وليس اللحوم، وانهما يستخدمان لغة خاصة يقولان من خلال عباراتها رسائل عاطفية لا يفهمها سواهما، رغم ان ما يقولاه ينصب مباشرة في ترتيبات العمل الفني المشترك الذي سيجمعهما.
كان هو متردداً يخشى التصريح بمكنوناته لها، فكلاهما عانى من زواج فاشل تماما، ويبدو انهما لا يتحملان المزيد حتى في علاقة قد تدوم بدون إرتباط، ويريدان مجرد علاقة رومانسية قد تكون ذروتها نزهة حالمة ليلية تحت أشعة البدر وتراقص اضواء النجوم بدون إلتزام، وكانت هي حائرة ما بين اهتمامه وتعلقه الواضح بها، والاحجام عن البوح بمشاعره. كانت تعتقد انه يجب ان يبوح لها على الأقل بوجودها في مكان مميز عنده، وقد عللت احجامه ذلك بتجربته السابقة التي وصلت تفاصيل مرارتها للإعلام. ورغم عدم وجود مشروع الزواج على جدول اهتماماتها ايضا، لأسبابها الشخصية وأهمها النفور الشخصي من الارتباط والمسؤوليات التي تكبل الانسان بعده عاطفيا واجتماعيا وعائليا، كانت فضولها يستفزها امام الشخص الوحيد الذي يحتويها بعينيه بشكل لم يفعله رجل من قبل.
- هل انا من هواة العذاب لأتزوج مرة ثانية؟ قالت زاد لإعلامية حاورتها ذات مرة.
- لماذا؟
- مهما حاول احدهم ان يبدي تفهما حول مهنتي، يصطدم بتفاصيلها في حياتي الشخصية. تفاصيل يستحيل تجاوزها، فيبدأ الانتقام مني شخصيا بسبب ظروفي.
- هل يمكنك شرح هذه التفاصيل؟
- لا شخص حتى الان رآني سوى من خلال بدلة الرقص! رجل كان أو إمرأة. لم يرني احدهم بشكل شخصي، حتى زوجي السابق. حياتي خلف الكواليس ليست سهلة، فالجميع يعتقد ان وصوله إلى فراشي أمر طبيعي لأنني اتعرى بشكل ما امام الجمهور. لا زوج يستطيع تحمل ذلك، حتى لو أبدى تفهما في بداية العلاقة، من اجل رغبة فيّ لا يستطيع تجاوزها أو طمع في مالي.
- هل تقدم رجل نحوكِ طالبا الزواج؟
- بشروطه وهي الاعتزال.
- ولماذا رفضت؟
- لأن الرقص مهنتي. لم اطلب منه التخلي عن اعماله ليتفرغ لحبي.
- وماذا عن الحب في حياتك؟
- أحب فعلا مهنتي.
- هناك جواب مشابه سمعته من كاهن قال لي عن المرأة في حياته انها العذراء مريم والام والاخت!
- شاهدت هذا اللقاء تلفزيونيا، ولم ادرِ حقيقة لماذا كررتِ هذا السؤال وكرر الارشمندريت الجواب الى ان تدخل ارشمندريت آخر وقال عبارته نفسها ببطء! إعتقدت ان كليكما أصم!
- قه.. قه.. قه.. انا لم اجد سبب لهذه الهفوة الاعلامية على الهواء واشكرك على صراحتك معي.
- ربما كنتِ مرهَقة وقتها. اعتقد ان رد الارشمندريت مناسب لأنه تجاوز الثمانين! اما انا فأقول لك انني احب مهنتي فقط وانا في اواخر عشرينات عمري.
- هل معنى ذلك انك لم تعرفي الحب؟
- عرفت الحب ولم اعرف الغرام. غرام متلهب. هل حقيقة هذا الشعور موجود؟! نظرت بمودة إلى رجال لديهم روح النكتة، أو على وسامة كبيرة. صادقت مدرب رقص كان صاحب تأثير كبير على ادائي، وأثق في وكيل اعمالي.
- هل انتِ ناجحة في نظر الرجال بقدر ما تمثلي الغواية؟
- صحيح. وفن الرقص عند الذوّاقة النادرين منهم. لكن ليس معنى ذلك انني احث كل الرجال على مطاردتي. يندهش الناس حين يشاهدوني في السوبرماركت، وكأن كل ما افعله في حياتي هو التمايل على المسرح.
- ماذا يعني لك هذا الامر؟
- لدى الناس واقعية مفرطة عن حياتهم، ومخيلة مدهشة عن الآخرين.
- هل توقعتِ ذلك قبل دخولكِ إلى عالم الرقص؟
- توقعته لكن ليس بهذه الحدة.
لاحظت زاد اصفرار بشرة وعيني جلال اثناء وجودهما في لاس فيجاس، واثناء حديثما عن الامر اخبرها بأنه يعاني ايضا بعض الالام في أعلى البطن والظهر وقلة الشهية، وانه سيذهب الى طبيب بمجرد عودته إلى بيروت، وبدت الامور لجلال بعد إسبوع تقريبا كأنها زيارة عادية، عندما ذهب إلى طبيب امراض داخلية محاطا بإبتسامات المرضى الموجودين، وإبتسامة الممرضة الكبيرة وتحية الطبيب الذي تحرك من وراء مكتبه ليصافح المطرب المحبوب ويستمع إلى شكواه، وتوقع جلال سماع كلمات عن تأثير الإرهاق، أو وجود ميكروب في المعدة بسبب أكله شبه الدائم من المطاعم، لكنه فوجىء بملامح الطبيب وهي تتغير من الوجه المبتسم إلى تعابير التوجس، وهو يستمع إلى تفاصيل وجعه وهو يفحصه ويضغط بأصابعه على اجزاء معينة أعلى بطنه، ويكرر سؤاله له عن وجود إمساك مزمن.
- هذه الامور دلائل غير طيبة احيانا. قال الطبيب وهو يكتب توجيهاته للمختبر، وليس وصفة علاج.
- هل تشير إلى مرض عابر أو دائم؟ سأله جلال.
- لا استطيع الجزم سوى بعد قراءة فحص الدم.
- هل احتاج إلى فحص دم؟
- وبعض الفحوص الاخرى. لا تتوهم فقد يكون الامر مجرد إلتهاب في مكان ما في المعدة أو القولون.
إستمع جلال إلى الحديث التلفوني بعد ايام مع طبيبه الذي قرأ نتائج فحص المختبر وطالع صور الاشعة، وكأنه يستمع إلى تشخيص مرض إنسان آخر، لكنه بعد اجراء مسح ضوئي على جسده بالكامل للتأكد من براءة اعضائه الاخرى من المرض، أرغم نفسه على تصديق كلمات الطبيب الاختصاصي عنه، وانه هو "إسماعيل بيضون" وليس احدا غيره المصاب الذي يستمع عن نظافة كل اعضاء جسده حتى هذه اللحظة، ما عدا البنكرياس المصاب بالسرطان، الذي لم يعد إسمه مخيفا كما كان سابقا، وكانوا يطلقون عليه "الخبيث" أو "ذلك المرض"، بل أصبح مألوفا بالنسبة للأطباء وفرق المعالجين، ويلفظوه كما هو ببساطة يستحيل ان تجعل المريض يقبل إصابته به بالطريقة نفسها.
كان الطبيب الاختصاصي يشرح الامر بموضوعية كاملة وحيادية مذهلة، جعلت جلال يتمنى ان يكون مكانه، ووجد نفسه بعد إستماعه لشرحه يضيف عن غير قصد الخوف إلى الامل في مواجهة خلايا جسد تحاول القضاء على نفسها ووجودها، لأنها اصبحت بدون عمل. جعله شبابه وصحته لا يفهم بعض ابعاد الحياة المأساوية، ومنها انها بُنيت لتقضي على نفسها بنفسها بوسيلة أو بأخرى، سوى في هذه اللحظات، لأن عمر الرابعة والثلاثين والاضواء والتصفيق جعلوه يرى فقط جوانبها المشرقة، التي ستنتهي بزوال وجوده بعد ستة شهور أو أكثر بقليل كما ألمح الطبيب.
قاوم جلال في البداية اخبار مرضه بإبتسامة عريضة للممرضات والاطباء، لعلها تقيه شرور اخبار سيئة اخرى لا يريد سماعها بعد إجراء التحاليل الطبية والصور الاشاعية، لكن إبتسامته تلك لم تستطع منعها عنه، ولم تعطه حتى مجرد امل بإزالة إصابته القاتلة بجراحة أو إطالة عمره مع المرض بضع سنوات اخرى بوسائل علاجية، وقد واجه وقائع مرضه التي لم يصدقها في البداية وكأنها موجهة لإنسان آخر، ثم ادرك أنه هو المقصود، فحاول استيعاب ابعاد لا رحمة فيها للحياة كانت غائبة عن ذهنه تماما، ومنها ان الدنيا ستستمر بدونه، رغم انه سمع كثيرا ان الاعراس لا تكتمل بهجتها سوى بغنائه وحضوره.
بإستثناء هواجس هموم التفكير، وتداعيات العلاج الكيميائي والاشعاعي على الجسد والروح، عاش جلال غندور مغامرة التأمل ليخرج منها بدلالات، ربما تؤسس نهجا حياتيا آخر لعمر بدأ يغرب، يستطيع من خلاله الاستمرار مع ما هو ثابت ومتغير، فوجد لا شيء ثابتا في حياة جبارة، تستطيع خداع الانسان وتقديم صور زائلة له، توحي له بأنه خالد، بينما الوقائع تقول ان الحياة نفسها هي الثابتة، وكل صورها متغيرة بما فيها وجوده هو شخصيا، تماما مثل الشجرة والاوراق، ولم يدر لماذا قرر التخلص من كل ساعاته الشخصية حتى الثمينة منها التي اشتراها من اماكن مختلفة في العالم، كما قرر التخلص من ساعة الحائط في منزله، وبدأ محاولة العيش بدون وقت محدد يزعجه مروره بدون عودة.
تعلل جلال بأمور كيثر ليتحاشى زاد في الاسبوعين الأولين بعد تشخيص مرضه وبدء العلاج، وكان كثير التفكير في انماط العلاقات الانسانية التي اقامها، وطالما تأمل عن قصد وغير قصد صور ذاكرته، ولم يكن يدري لماذا يتوقف دائما عند صورة امه التي رحلت وهو صغير؛ امه الكريمة في إطعامهم ومصروفهم اليومي وإظهار محبتها لهم وفناء وقتها كله في العمل من اجلهم، التي لم تقل كلمة واحدة حتى عن مرضها ومعاناتها ورحلت في صمت وهي نائمة.
سأل جلال اباه وهو يبكي بعد عدة ايام من وفاتها: اين يذهب الناس بعد الموت؟ فقال له ابوه: إلى السماء. لكن السماء غير موجودة، قال جلال. رد الوالد: هناك سماء لا نراها، وجاء ذكرها في القرآن ويراها المتوفون فقط لأنهم يعيشون فيها. لماذا؟ سأل جلال. لآن لديهم المقدرة على ذلك، قال والده.
- وكيف يملكون هذه المقدرة؟ سأل جلال.
- هل ترى امك الان؟
- لا.
- كما انك لا تراها، هي في مكان لا تراه انت ايضا.
إكتشف جلال ان بعض علاقاته الانسانية والاجتماعية، لم تكن تستحق عناء تفكيره أو ضيقه من بعض مواقفها، وكان وقوفه عند بعض الامور، التي ادرك بعد إصابته بالمرض انها تافهة، لم تكن تسلتزم هذا القدر من التفكير والانفعال، وقارن ما بين إنشغاله في بعض شؤون الحياة التي كان يعتبر انها تستهلك جزءا من وقته، وإلتزامه الحضور إلى المستشفى بعد ان أجبرته الظروف على إلغاء كل مواعيده الفنية، فوجد ان من رحمة الدنيا عليه انها كانت تشغله بما يُبهج، بعد ان جعله جسده أسير ما يُتعس. ادرك ان بعض مشاغله السابقة كانت تستلزم ضحكة ساخرة وليس توترا. كانت تحتاج إلى نظرة متأنية لما يحدث كما هو، والاستمتاع بأداء الناس غير المعقول احيانا، ومراعاة ظروف عقولهم التي تتحكم فيهم، وتجعلهم مثل الارض يدورون في مدار معين لا يتغير، ووجد نفسه، بعد استعادة معظم ما حدث في ماضيه، تسامح كل الذين اساءوا إليه، بمن فيهم الذين سخروا من طموحاته وقالوا عنه أنه لا يمكنه الغناء سوى في مناسبات اصدقاء له فقط، لكن الامر المثير حقا بعد كل هذه المراجعات، كان إصراره على صوابية طلاقه من زوجته السابقة.
شعر جلال ان خلايا جسده قد خذلته، فحاول الهروب إلى الامام، حتى لا يغرق في التفكير في مستقبل لا يريد ان يعرف ملامحه، مازالت الدنيا ستكون بدونه في لحظة ما، وكان يتمنى ان يكون هذا "الامام" خلودا لا ينتهي مع الشهور الستة، ويغيب من ثمة في ظلمة مجهولة لانهائية تبتلعه. حاول جاهدا ان يصل إلى قناعة يعيش بها هذه الفترة، يتوج بها خبرات حياته وفنه. قناعة تجعله في شعور أقل تورطا مع المرض الذي اصبح يلازمه ولا يستطيع الهروب منه؛ ينام وهو يفكر فيه ويصحو فجرا وعقله يهمس له بإسمه، وطالما وقف فجأة وحاول الركض في محاولة منه للتخلص منه، كما انه سأل ملكة مرتيّن عن كيفية الهروب من جسمه، أو طرد المرض منه، ولم يجد سوى شبه إبتسامة على زاوية شفتيها، تسخر من كل الامور والموجودات والاحياء، ونظرة طويلة من عينيها إلى عينيه تعينه على مواجهة صراع محسوم امره.
تذكر جلال مرة احد مخرجي الفيديو كليب وهو يطلب منه ان يقف وراء الكاميرا، بينما هو يتحرك ويقف مكانه، وطلب منه ان يرى نفسه بعيون المخرج والمصور ليحسن اداء اللقطة، وقد أدى المشهد أفضل عندما رأى العيوب التي جسدها المخرج وهو يقلده، وطالما تمنى وهو يسير في ردهات المستشفى ان يقف خارج جسد إسماعيل بيضون ليتأمل المشهد، وعندما تخيل انه يفعل ذلك، جاءت ملكة ووقفت بجانبه.
- خرجتُ من محنتي عندما خسرت كل شيء بسبب روحي المعنوية. قالت ملكة.
- لكن حالتي المعنوية يستحيل ان تخرجني مما انا فيه. رد جلال.
- لا تكن حليف المصائب، بل كن عدوها لتتخلص منها أو تهزمها.
- كيف؟
- الحزن والاستسلام يجعلاك حليف المرض.
لم يجد جلال سوى التسليم بما حدث والتمسك بأمل ما ليواجه ما شرحه له الطبيب الاختصاصي عن الخلايا الشاردة أو التي فقدت عقلها، بعدما فقدت وظيفتها وراحت من ثمة تصب قوة طاقتها الكامنة لتجعل كل الخلايا الاخرى فاقدة العقل مثلها، عاطلة عن اداء وظائفها الحيوية كاملة وهي التناغم لصحة الجسد، وبعدها تهاجم الجهاز المناعي لتقضي على كل وسائل الدفاع الممكنة، لتقضي على حياتها وحياة الانسان حاملها.
تعجب جلال من اشكال الغرف التي يدخلها ليُعالج، من خلال اللون الابيض واللمسة التقنية الانيقة على أجهزة تؤدي عملا مخيفا هو قتل خلايا لم يعد لها اهمية، وباتت خطورتها القصوى على حياته تسلتزم تدميرها، واطباء وممرضات لم يعودا معجبين بصوته ولا الحصول على توقيعه، بل بحقنه بمواد كيميائية تدمر خلاياه السرطانية، فغربت اللهفة عن عيونهم عندما يرونه، لأنه تحول إلى مجرد حالة مرضية، يتعاملون معها من خلال سرنجات بلاستيكية واجهزة حديدية وإشاعات غير مرئية للعين واكواب يضع فيها بعض بوله وانابيب يحفظون فيها سنتيمترات من دمه لإرسالها إلى المختبرات.
كان جلال غندور يتلهف على الخروج من تلاطم امواج زمن المستشفى، كما وصفه، وكان في غمرة الموج الذي يتلاطم فوق كاهله، يُخرج رأسه احيانا ليطل على "الاستاذ" الواقف في مساحة ضوئية في ذاكرته، لم تستطع احاسيس الخروج من دائرة الزمان والمكان المعروفة، إلى زمن المستشفى وغرفها المخيفة التعتيم عليها. كما كان يطل على زاد ولا يدري حقيقة ماذا يقول لها، ولماذا اختارت ظروفه ان يعرفها في هذا الوقت.




6


اعتقد جلال غندور ان يوم معرفة اصابته بالسرطان أسوأ يوم في حياته، لكنه ادرك ان كل يوم يحمل له أسوأ مما سبق، لأن مرضه جعله وكأنه يركب قطارا بدون سائق، ويتحرك من محطة الى اخرى رغما عنه بسرعة مخيفة بدون أدنى امل في إبطائه أو وقوفه. قطار يسرع في نهار مشحون الافكار، وما بعد منتصف ليل صامت يجعل الهواجس تتسلل إلى عقله. قطار يجري في ما يشبه خدعة كونية هي تعاقب الليل والنهار يقولون عليها الزمن، وقد رآها من غرفة قيادة الطائرة وهو عائد إلى لبنان من الولايات المتحدة، عندما سأله قائد الطائرة إذا كان يريد ان يرى المشهد من مقدمة الطائرة، رغم ان هذا غير مسموح في قوانين الطيران.
- ما هذا الضوء البعيد الذي نراه امامنا والدنيا هنا ليل؟ سأل قائد الطائرة.
- النهار في اوروبا.
- إنه مشهد رائع فعلا.
- تعودنا على رؤيته. اصبح مجرد روتين.
- تكلمت مرة مع استاذ لي عن الزمن فقال انه دورة الارض حول الشمس.
- إنه يتكلم عن الوقت. أعتقد لا شيء اسمه الزمن.
- وإذا عاش الانسان في قمر اصطناعي هل سيُطبق عليه قاعدة مرور الوقت؟
- اعتقد ذلك لأن ساعتنا البيولوجية مرتبطة بالارض التي خُلقنا منها. انا اطير إلى اميركا من الشرق الاوسط في يوم، وأعود في يومين، رغم ان الرحلة تتم بعدد الساعات نفسها. يحدث ذلك بسبب دورة الارض حول الشمس، وعمري لن يزيد أو ينقص.
قرر جلال ان يقفز من قطاره ويتوقف عن العلاج نهائيا فلا جدوى منه، ويزور "الاستاذ" قبل التحدث مع زاد لعله يستمد منه قوة ما، ولاحظ جلال بمجرد دخوله الى منزل ميشال سعد ان الغرف كلها مضاءة بشكل كامل، فقرأ تحية المحبة المباشرة من صاحب الدار، وشدّ على يده وهو يصافحه ويبتسم، ثم انحنى فوق كتفه الايسر وقبله.
- لماذا الاضاءة كاملة في كل الغرف اليوم؟ سأله جلال عندما جلسا وكلاهما يبتسم للآخر.
- لا اعلم لماذا اشعر بانقباض داخلي، فقلت في نفسي لعل الاضاءة الكاملة تزيحه.
- هل هناك سبب محدد؟
- الكهرباء اصبحت مجانية في البلد.. قه... قه.. قه.
- ولذلك تضيء كل الغرف لتطرد الكآبة؟ سأله جلال وهو يبتسم.
- لا تشغل نفسك بالامر. اود ان نبدأ حديثنا عن الاغنية الامازيجية الرائعة التي سمعتها منك. قال ميشال سعد.
- هل اعجبتك؟
- هائلة، رغم انني لا افهم منها ولا كلمة.
- يحبها الناس على المسرح لأنها تجعلهم يرقصون وانا اغنيها، ورغم ذلك اتهمتني بعض المواقع الألكترونية العربية بالخيانة لأنني أروج للثقافة الامازيجية!
- تجاوز هذا الكلام السخيف. خيانة؟! انا شخصيا لا أفهم معنى القومية العربية التي يتحدثون عنها. هل معناها موت الثقافات والقوميات الاخرى أو محوها باقتلاع جذورها في هذه المنطقة؟
- لا اعلم.
- وإذا كان الامر كذلك، فالامر أسوأ بكثير مما فعله الرجل الابيض مع الهنود الحمر في الاميركتين.
- ربما.
- احب هذه الاغنية لأنها تثير فيّ روح التفاؤل. لحنها رائع جدا، وكأنه خلفية لما تغنيه. أفق لمعانيها وصوتك معا وليس لحنا.
- حتى انا لا افهم سبب انتشارها بهذه الطريقة ولم اتوقعه.
- ما حكاية هذه الاغنية؟
- قابلت مؤلفها في الجزائر، وعرض كلماتها عليّ، ووافقت على غنائها عندما عرفت معانيها. مجرد طريق إلى شهرة أكبر في المغرب العربي، لكن انظر ماذا حدث!
- ومن هو ملحنها العبقري الذي جعل الشرق الاوسط يغنيها معك بدون أن يعرف معانيها؟
- الجندي المجهول وراء ما تسمعه هو الموزّع، لأنه صاغها على لحن امازيجي فولكلوري قديم، عندما ادرك قِصَر وقت انتظاري للبحث عن ملحن امازيجي لن استطيع التفاهم معه، لكي يدربني على غنائها.
- ما هي معاني كلمات الاغنية؟
- " أهلا بك في الدنيا
الكل يقول انه يفتش عن الحب
هل سقطت الاقنعة؟
متى يرتاح القلب؟
هل فعلت كل ما تود
أو تورطت في ما لم تتمنَ؟
هل ركضت وراء سراب
وأسرك ما لم تتوقع ؟
اهلا بك في الدنيا
ألف عليل وواحد بصحة
مليون فقير
وواحد بكرش غليظ
مليون تعيس
وواحد سعيد
اهلا بك في الدنيا
هل ما زلت تفتش عن المعقول
أو اقنعتك الظروف
بجمع الفلوس
لا تفكر كثيرا
فالإدراك جنون"
- هل تحب انت شخصيا هذه الاغنية؟ سأله ميشال.
- من كل قلبي.
- تزورني دائما بدون مناسبة، لكن صوتك تلفونيا أوحى لي بوجود امر ما.
- وانت تستقبلني ايضا بكل هذه الانوار!
- بسبب إحساسي الذي قلت لك عنه. ماذا لديك من جديد؟ على فكرة قبل التحدث عن جديدك، ما اخبار رحلة لاس فيجاس؟
- كانت موفقة جدا.
- وزاد؟
- احبها جدا.
- ما رأيك في فنجان قهوة؟
- انت تعلم انني اشربها فقط معك.
نهضا وذهبا معا الى المطبخ حيث إعتادا الوقوف امام موقد الغاز للثرثرة بينما ميشال يغلي القهوة.
- لدّي ستة شهور فقط لأعيش؟ قال جلال وهو ينظر إلى ركوة القهوة.
- لماذا؟ ماذا حدث؟ سأله ميشال.
- سرطان في البنكرياس.
- في عمرك هذا؟ هل انت متأكد؟
- قيل لي ان السرطان لا شأن له بالاعمار، والصور والتحاليل اثبتت ذلك.
- .........
- لم ارد ان اثقل عليك، لكن صداقتنا دفعتني الى البوح لك. الامر لم يعرفه الاعلام بشكل واضح بعد.
- لم تثقل عليّ بل احزنتني للغاية. امر لا يصدق.
- هل تعلم انني لم اصدق اصابتي بالسرطان في البداية. إعتقدت انهم يتحدثون عن شخص آخر وليس انا.
- هذا صحيح الى حد ما. صدمة عصبية. على فكرة؛ الاعمار لا شأن لها بالسرطان.
- كيف؟
- من المحتمل ان تموت اليوم في حادث سيارة، أو تحطم طائرة لأنك كثير السفر، خصوصا بطائرات الامراء الخاصة الذين تغني في قصورهم.
- هذا صحيح. لكن لا يمكنني نسيان العد التنازلي الذي اعيشه.
- تناساه. المسألة نسبية.
- لم افهم قصدك.
- كلنا سنموت. بعد شهور أو سنوات. ماذا فعلت بعمرك طال أو قصر؟ هذا هو الأهم.
- اريد ان اعيش يااستاذ. لديّ الكثير سأفعله، لو يذهب عني هذا اللعين.
- لديك حسابيا ستة شهور يمكن ان يطيلها الطب المتطور. عش هذه الشهور ومارس ما تود ان تفعله، ودع هذا الكابوس للأطباء يتصرفون معه. يصطفلوا.
- انت تفلسف الامور لتجعل الامر يهون عليّ.
- ماتت ليلى مراد في خمسينات القرن العشرين عندما توقفت عن الغناء، ثم توفت بعد ذلك بسنوات طويلة، لكنها في الحالتين مازالت على قيد الحياة في افلامها واغانيها.
- هذا صحيح.
- هل تحدثت مع إميل الريس؟ سأله ميشال وهما جالسان يحتسيان القهوة، بعد فترة صمت.
- نعم وبدا حزينا جدا لدرجة انه قال لي انه لا يستطيع الحوار معي وسيتصل هاتفيا بي بعد ايام.
- هل قلت ذلك الامر لأنطوان عزيز؟
- نعم. تأثر كثيرا.
- حتى لو بدا سؤالي سخيفا أو سمجا: هل تعتقد انك ستموت؟ إنك تتمتع بصحة وعافية ولا اتخيل رحيلك هكذا بهذه البساطة.
- حتى انا لا اعتقد انني سأموت، وأسأل نفسي كيف؟ قال ابي انني سأنتقل الى حياة اخرى.
- هل تؤمن بوجودها؟
- القرآن يقول ذلك. وسيدنا عيسى أقام الموتى. من أين أعادهم؟
- انا غير مقتنع تماما بهذه الامور.
- لكن الناس يؤمنون بها.
- ما رأيك بعقد إتفاق بيننا؟
- ما هو؟
- من يمت بيننا اولا يأتي للآخر بأية صورة ليثبت له وجود حياة اخرى.
- إتفقنا. قال جلال وهو يهز رأسه ويبتسم. على فكرة مرة اخرى.. لماذا لا تكتب؟
- لا اعرف.
ارتبط جلال غندور بعدة أجندات بعدما وصل إلى الشهرة، هي دورات اعياد المسلمين والمسيحيين والاعياد الوطنية والمناسبات الشخصية والمهرجانات، وغنى وانفعل خصوصا مع الكلمة الجميلة والفكرة غير المسبوقة، وطالما سأل المؤلفين: هل عشتم هذه الاحاسيس؟ وكان يسمع إجابات تتراوح ما بين الإلهام والحرفية والتجربة والإحساس الحقيقي، وكان أطرف ما سمعه هو قول احدهم بأن أمه كانت تتهمه بسرقة مشاعر الناس وكتابتها لأنه يملك خيالا أخصب منهم. كما سأل الملحنين عما إذا كانوا يسمعون اللحن في ذهنهم ثم يدونوه، أو ان الكلمة توحي لهم، وكانت الاجابات متناقضة ايضا.
كان جلال يعيش فعلا كلمات ولحن أي أغنية جديدة، وعنده الجرأة ليغني ما هو غير مألوف، لذلك كان من المطربين الذين يتسابق بعض الفنانين خصوصا كتاب الاغنية الموهوبين على العمل معه، لأن مرحلة ميلاد الاغنية كانت ذات نكهة مختلفة معه، وملاحظاته كانت مُلهِمة وكان غناؤه و"سلطنته" وهو يؤدي بعض المقاطع ترفع روحهم المعنوية وتدفعهم على كتابة المزيد له هو تحديدا.
تغيرت هذه الأجندات بعد المرض إلى اجندة شخصية خاصة بما حلّ به، وشعر لأول مرة ان ثلاثة اسابيع قد مرت بعد معرفته بإصابته، وقد دفعه هذا الادراك إلى تفكير جدّي باتخاذ قرار بشأن زاد، لكنه لم يكن يعرف ما الذي سيفعله، فقد سيطر عليه احساس بعدم جدوى أي شيء، ثم بدأ خطوته الاولى حين صارحها بدوافع تردده عن البوح لها بما لا يستطيع تجاهله عن حبه وحاجته لها ومرضه الذي باغته على غير توقع، ولم تندهش هي مما قاله عن حبه، لكنها بدأت تفهم حقائق الاشاعات التي تحيط به إعلاميا ولا يرد عليها، واسباب بعده عنها والاكتفاء بالاتصال الهاتفي مرات قليلة، وعندما بدأت صدمتها تزول استوعبت خطورة وأهمية ما يقوله لها، وهي لا تصدق ان رجلا في مثل عمره يمكن ان يصاب بسرطان مميت في البنكرياس، كما انكرت رحيله في مدة أقصاها ستة شهور، لأنها عرفت ان بعض الناس تجري جراحات أو علاجات وتُشفى.
- هناك نوعان من السرطان، احدهما تتكاثر خلاياه وتنتشر. مميت لا جدوى من علاجه. قال لها.
- سمعت عن اشخاص ازالوا البنكرياس ويعيشون على دواء يومي.
- سألت الطبيب فقال ان اصابات سرطانية اخرى حدثت لهم.
- في البنكرياس؟
- نعم. هناك حتى فرق في الاصابة في اجزاء البنكرياس نفسه. وما حدث لي هو الأسوأ.
- ماذا تعني؟
- تخيلي ان عازفا سكرانا بدأ عزفا مرتجلا لا علاقة له بما يعزفه الآخرون. هل يمكنك أن ترقصي؟
- يستحيل.
- هذا ما تفعله الخلايا السرطانية في جسمي! إنها لا تؤذي المكان التي هي فيه فقط بل تنتشر.
- وهل العلاج سيؤدي إلى نتيجة؟
- قررت التوقف.
- لماذا؟!
- لماذا أتعذب بالعلاج؟
- هل هو مزعج؟
- جدا. ولا تنسي هدر وقتي ونقودي. لا يمكنك ان تتخيلي مدى معاناتي التي تدخلني في نوبات، تحتاج إلى مسكنات حتى الخروج منها.
- هل تحبني يا إسماعيل؟
- اصبحت في شك من كل شيء حتى من وجودي نفسه. حبك هو الواقع المؤكَد. انا موجود لأنني احبك.
- هل قلت كلمة احبك لأي إمرأة قبلي؟
- لم يحدث. اشتهيت وتمكنت الرغبة مني فقط. كنت انتقل من حالة شعورية إلى اخرى كمن يقلّب اوراق لا علاقة بينها.
- لم افهم حكاية الاوراق هذه.
- كنت اتصفح فقط مجموعة اوراق، ورقة فيها عيون مثيرة.. واخرى تحتوي على نهدين كبيرين.. وثالثة عليها واحدة تدعوني.. وهكذا. لا علاقة توّحِد هذه الاوراق. انت جمعت كل شيء وجعلتيني ألقى مجموعة الاوراق هذه لأنني وجدت الكتاب الذي أبحث عنه.
- ماذا تريد ان تفعل بهذا الكتاب؟ سألت زاد بعض لحظات تأمل في ما قاله.
- هل يمكننا العيش سويا؟ انا بحاجة لك رغم كل ظروفي. على فكرة.. السرطان لا يُعدي.
- نعم يمكننا ان نعيش في بيت واحد. لما لا؟!
- انني حتى.. لا استطيع شرح ذلك.
- علاقتنا لا علاقة للشفقة بها! هي علاقة كاملة بين رجل وإمرأة، وإذا كانت مخاوفك تقود جسمك وتشل اعضاءك، فمن الأفضل ان تأخذ حبوب تجعل الاعضاء تعمل بغض النظر عن حالة الجسم واحباطات المشاعر.
تجاوز جلال إحساس التائه في صحراء ليلا لأنه وجد نورا يشع عن بعد. هكذا رأى زاد لأول مرة والنور يشع من وجودها. نور واضح يرشده إلى واحة آمنة فيها ما يحتاجه، ولم يدرِ لماذا سمع صوت زوجة ابيه ملكة وهي تقول بنبرتها الساخرة: أنت بتعتقد ان الناس بتعرف تتكلم ياعمتي؟ كتّر خير الارض.. كتّر ألف خيرها يا عمتي لأنها شايلة كل البني آدمين ألي عليها! ادرك انه كان يبحث منذ زواجه الفاشل الاول عن إمرأة تعرف كيف تتكلم وتشعر وتفهم، وان زاد بالنسبة له هي ذلك الجسد والعقل اللذيّن كان يبحث عنهما مجتمعيّن. هي الحلم الذي رآه متجسدا بعد فوات الاوان، وليس مهما بعدما تحقق حلمه ان يحدث ما سيحدث.
أصّر جلال على ان يتم الزواج بينهما بشكل قانوني وفهمت زاد خلفيات ما يعنيه، وكان زواجهما بسيطا للغاية لم يغن فيه مطرب ولم ترقص راقصة ولم يحضره مدعوون سوى ميشال سعد الذي كان معهما، وبعد توقيعهما على العقد عند المأذون في مكتبه، ذهبوا إلى منزله الهادىء وتناولوا فيه عشاءهم، الذي طلبه ميشال من أفخم المطاعم، على اضواء شموع كثيرة منتشرة في كل انحاء البيت، يتحرك بين نورها ثم يصعد إلى سقف الغرفة دخان اعواد بخور، ثم توجها بسيارته بعد سهرة لطيفة واحاديث متنوعة إلى منزلهما في ساحل علما.
- ما هذه الموسيقى الرائعة التي تنساب مع هذا العشاء الشهي والجلسة الدافئة؟ سأل جلال ميشال وهم يتناولون طعامهم.
- فاجنر. منوعات من ريتشارد فاجنر.
- أعتقد ان هذه أجمل حفلة زفاف يمكن ان يتخليها المرء. قالت زاد.
- ربما بسبب بساطتها وخصوصيتها. قال ميشال لها.
- لا نفاق ولا واجبات اجتماعية. قال جلال.
- كنت تجاملني في شرب القهوة واليوم تشاركني انت وزاد الخمرة. قال ميشال.
- ربما لأنك ستقود السيارة بنا إلى ساحل علما. قالت زاد وهي تضحك.
- بالنسبة لي أشربها لأنني غارق في إحساس لا يوصف. يمكنك ان تقول انه الخلود. انا حقيقة ممتن لك جدا قال جلال.
- بل انا الممتن. بشكل ما كل الذين إقتربوا مني أذوني، ما عداكما. قال ميشال.
- لذلك انت بعيد عن الناس؟ سأله جلال.
- وقريب جدا من الذين أثق فيهم. رد ميشال وهو يلاحظ ان زاد تتنصت احيانا على كلماته ولا تسمعها فقط.
- لماذا الاذى سمة في الناس؟ سألته زاد.
- بسبب ضيق الافق. ردّ ميشال.
بمرور الايام إكتشف جلال ان زاد خلقت حالة توازن واستقرار لم يعرفها من قبل في حياته، فقرر ان يعيشها لعله يصل من خلالها إلى معجزة شفاء ما، أو العيش مع المرض لفترة أطول، وكان نتيجة حياتهما معا شيئا رائعا لم يقدره مطلقا هو اللامبالاة تجاه ما يعاني، والرجوع إلى فنه والغناء في الحفلات والعرزال كل ليلة سبت، لأنه قرر الآ يبتعد عنها بسفر خارج لبنان، وكان يبتسم احيانا لأن هذه المرأة كانت صاحبة تأثير لا وصف له عليه، وقد محت بوجودها كل اطياف النساء السابقة في حياته ومخيلته، وحلت هي بوجودها وشخصيتها التي لا يعرفها احد امام الكواليس، وظلت وحدها بعينيها داكنتي الخضرة ضوء نهاره وسكينة ليله، وكلامها ملح يومه الذي لا يستطيع لا إراديا إضافة المزيد عليه، ما جعل مشاعره تستقيم وتستقبل المرأة بالشكل الطبيعي، كما تراجعت بشكل ملحوظ عادة سرعة القذف التي أصيب بها بعد زواجه الاول، وعاد إلى الاداء الطبيعي الذي كان عليه.
كانت زاد في الثانية والثلاثين من عمرها عندما التقت جلال غندور، ورغم اندماجها في حياتها الفنية والمجتمع، عاشت منزوية عاطفيا بعد زواج فاشل كاد يدمر فنها وشخصيتها، وقررت بعده ان حياتها الضوئية على المسرح هي الحقيقية، والحقيقية مجرد صراع لكي تظل نجمة حياتها الضوئية، التي داعبت فيها دائما الجانب الإباحي عند معظم الرجال، لكن لم ينجح احدهم في إثارته لديها، ثم ادركت بهدوء ان العيش مع جلال هو حياتها الحقيقية التي تود لها الاستمرارية، لأنه رآها هي سواء تحت الاضواء أو بعيدا عنها، ولم يسألها حتى ولو مرة عن حجم اموالها.
- حضورك يعني البهجة في كل زفاف، فمن يمنحك السعادة؟ سألتها أم احد العرسان ذات مساء في بيروت.
- سؤال غريب فعلا لم يسأله حتى أي صحافي لي.
- من يمنحك السعادة فعلا؟
- لا احد من الناس بل رقصي.
- هل تتمني فعلا ان تكوني جالسة مكان العروس؟
- لو وجدت الانسان المناسب.. لكن هذا الامر مستحيل بالنسبة لي.
- والامر المثير ان لا شيء يدوم، ومعظم ما يتمناه الانسان يقع تحت بند المستحيل.
- امر طبيعي لأننا لا نملك القوة لنفعل كل شيء.
- اتذكر اليوم مناسبة زواجي، وحين انظر هذه اللحظة الى زوجي اجد رجلا مختلفا تماما. رجل لم يعد بالصحة نفسها ولا بكثافة شعره ولا رونق بشرته ولا حتى بصره. كان قويا يهوى الملاكمة، فأصبح يصارع عدم إنتظام دقات القلب وإرتفاع نسبة الكولسترول.
- وانتِ ايضا اصابك التغيير الزمني.
- وهو أمر مزعج للغاية. جسدك يهمس لك بمرور الزمن وأن الشيخوخة اصابتك.
- لا يستطيع احد ان يتحاشى مرور الزمن. قالت زاد.
- والذكريات تشعل الماضي. كل شيء يمر بسرعة غريبة. تدخلي الحياة بعد الدراسة الجامعية وانت في منتهى الحيوية والنضارة، وتنغمسي فيها، ثم تتفاجئي يوما بمراهق يقول لك يا خالتي، أو يا طانط، ما يعني إنك في خمسينات عمرك! قالت أم العريس.
- ياريت الامر يتوقف عند هذا الحد. قالت زاد وهي تضحك.
تأثرت زاد كثيرا بحديثها مع أم العريس في تلك الليلة، ولم تدر لماذا تمنت من كل قلبها ان تجد رجل لا تطاله حركة الزمن الجبارة، ليعيش في ذاكرتها بعيدا عن تأثيرات الظروف وتغيّر الحب وذبول الشهوة.


7


- عندي طفلتيّن صغيرتين كما تعلم وزوجي ليس غنيا. قالت سوسن لجلال وهما يجلسان في منزل ابيه.
- سعيتُ لكي يوظفه احد كبار رجال الاعمال، وليس مفترضا ان يكون كل الناس اغنياء. قال لها جلال.
- ماذا ستفعل بأموالك؟
- ماذا تقصدي؟!
- لا اعرف لماذا يتحاشى الجميع التحدث معك في أمر بالغ الأهمية.
- هل قصدتِ من سؤالك مصير أموالي بعد وفاتي!
- صحيح. لديك الكثير.
- سأكتب وصية.
- هل ستكون لمصلحة مَن تساكنها؟
- انا حُرّ التصرف في ما املك.
- هذه الراقصة لا تستحق اموالك.
- ليس كل الناس لديهم المواهب نفسها ليكونوا اطباء أو مهندسين أو موظفين. بعض النساء احيانا لا يجدن سوى الدعارة ليعملن بها. انت لا تعلمي ظروف الناس. على أية حال، ليس عيبا ان تكون زوجتي راقصة. هذه موهبتها وما تستطيع ان تفعله.
- هل تزوجتها؟!
- نعم.
- حتى لو تزوجتها فهي لا تستحق اموالك.
- مَن يستحقها من ثمة؟
- بناتي. هي غنية وليست بحاجة لها. اخوك وابوك وزوجته ليسوا بحاجة ايضا.
- انا حُرّ التصرف في ما املك. قال جلال وهو يغالب دموعه.
- صحيح، لكن وقائع الحياة تفرض التفكير بواقعية.
- المحبة التي تربينا عليها هذا البيت تمنعني من التمادي في هكذا حديث.
- المحبة شيء وتجاهل الواقع شيء آخر.
- لماذا لا تقولي أية كلمة يا ملكة. سألها جلال.
- ابوك ليس هنا، وانا زوجة أب ولست أمك. موقفي حساس كما تعلم.
- على أية حال سأكتب وصيتي بما اراه مناسبا.
- ارجو ان تفكر بتعقل ولا تكتب كل ما تملك لهذه الراقصة. انها لا تستحق.
- انا اعلم مَن يستحق. قال جلال وهو يهم بالخروج حزينا من المنزل
لم تر ملكة بتاتا محمود بيضون يخرج عن وعيه غضبا، مثلما حدث وهو يخاطب ابنته هاتفيا بعدما اخبرته عن مضمون الحديث الذي دار في المنزل اثناء غيابه، وقد توعدها بالتبرؤ من كونها ابنته إذا لم تعتذر لأخيها عن وضاعتها، وكان واضحا انها رفضت، لأنه اقسم بعدم زيارتها في بيتها بعد اليوم.
صبغ الحزن روح محمود بيضون بعدما عرف مرض ابنه، ولم يعد يؤدي فروض صلاته كما كان سابقا، لأنه اعتقد في ما بينه وبين نفسه ان الله ابتلاه بما لا طاقة له به، وان ابنه لا يستحق ذلك المصير في هذا العمر. ورغم ذلك كان يستقبل ابنه ويتحدث معه بكل مودة وصفاء وكأن شيئا لم يحدث، ومرضه غير موجود، وحتى السؤال العابر عن صحته لم يكن يسأله وكأن مجرد الاحساس بالارهاق غير موجود. لم يسأله مطلقا عن تطور مرضه أو لماذا توقف عن العلاج الكيميائي. جعله الحزن وعدم التصديق بغياب ابنه خلال شهور معدودات عاجزا عن السؤال، وجَبَله مصير ابنه بمشاعر يأس لم يعرفها طوال حياته، جعلته مرتبكا لدرجة انه لم يعرف ماذا يقول لابنه وهو يسمع منه خبر زواجه والطريقة التي سيتم بها نظرا لظروفه الحاصة.
صور عقلية كثيرة كانت تمر في مخيلة محمود بيضون بعد مرض ابنه، منها صورته وهو يغني في أول حفل حضره هو بعدما صار ابنه مشهورا، وصورته وهو فتى يتيم حائر ماذا يأكل ومن يكوي ثيابه، وصورته وهو في الدكان يساعده مبتسما بكل مثابرة ونشاط، وطالما تذكر رجع صوته في أثير الفجر وهو يؤذن للصلاة، وكان أشد صور الذاكرة وضوحا وقربا وكأنها حدثت منذ بضعة اسابيع، تفاصيل وقوفه في ردهة المستشفى ينتظر ولادته، بواسطة الطبيبة نفسها التي أولدت زوجته الاولى جميع اولادهم، حين طالت فترة الانتظار أكثر من اللازم حتى بدت كأنها دهر ملعون لا يريد ان ينتهي.
- اريدك ان تأتي معي إلى غرفة التوليد. قالت الطبيبة المشرفة على الولادة له وملامح الموت بادية علي وجهها.
- لماذا؟ سألها محمود بيضون.
- الجنين لا يريد الخروج من رحم امه!
- ماذا تعني؟
- خرج السائل الامينوسي الذي يطلقون عليها ماء الحبل ويخرج عادة مع الجنين، ولم يخرج الجنين نفسه لأسباب لا اعرفها.
- وما هو الحل؟ هل الجنين على قيد الحياة؟ سألها محمود بيضون وهو يشعر بدوار شديد.
- حالة نادرة جدا لا علاج لها سوى قدر الام والجنين.
- وماذا سأفعل انا؟ سألها محمود بيضون وهو يسمع صدى خفقان قلبه في اذنيه.
- اصيبت زوجتك بأغماء من شدة المجهود الذي بذلته. ولا استطيع إجراء عملية قيصرية الآن. العلم توقف هنا ولم يبق سوى ما بعد العلم ويجهله العلماء والاطباء، ولعل حضورك وصوتك يفيقها وأملي ان يفعلا شيء!
رافق محمود بيضون الطبيبة داخل غرفة التوليد وهو يمشي مترنحا، ووجد زوجته مغطاة غائبة عن الوعي على سرير التوليد، وعندما نادى عليها تحركت عينيها بضعف شديد، ثم دخلت في اغمائتها مرة اخرى.
- إذا لم ترني في الردهة بعد عشرين دقيقة فيجب ان تستعد لخبر سيء. سيء جدا. قالت الطبيبة لمحمود وهي تصطحبه إلى خارج غرفة التوليد.
- سأطلق إسمَكِ على المولودة لو كانت أنثى.
- هل ستسميها جوزفين؟ سألته الطبيبة مندهشة.
- اقسم بذلك. ولعها ستكون مُعلّمة، فالمعلمون مضربون عن العمل اليوم طلبا لزيادة في رواتبهم. قال محمود وهو يحاول ان يطرد كابوس الخطر السيء.
- ارجو الاّ يزيد إضراب هذه المُعلّمة عن عشر دقائق.
قالت "مدام صبّاغ" كما يُطلق الناس عليها رغم انها لم تتزوج ابدا، ثم سارت نحو غرفة التوليد وملامح سكون الموت ترتسم علي وجهها، لكنها خرجت منها بملامح محايدة تماما لا أثر للموت عليها، بعد دهر لم يتكلم محمود بيضون مع أحد فيه، ولم يسمع سوى هواجسه وهي تنشب مخالبها في اعصابه، لكنه بحساب الوقت كان أكثر من أربعين دقيقة.
- الاسم المناسب لهذا الولد هو إسماعيل! قالت وهي تحاول رسم إبتسامة على شفتيها.
- لماذا؟ سألها محمود بيضون وهو يهرول ليخرج من كابوسه كأنه غير مصدق.
- على وزن جوزفين. إسم يُعاقب به هذا الولد العنيد لأنه ليس ملائما للعصر، لكنه يناسب الويل الذي عانته امه، وسمعتي التي كاد أن يدمرها!
- فليكن مدام صبّاغ. إسماعيل!
كان ميشال سعد نائما في فراشه بعد سهرة خارج البيت احتسى فيها أكثر من زجاجة خمرة ليلة السبت، عندما أيقظه رنين الهاتف بجواره، وعندما أغلق الخط بدون ان يرد على المكالمة وهو بين اليقظة والنعاس، انتبه إلى وجود بقع اضواء تلمع خارج غرفته تشبه وميض فلاشات، فاعتقد لوهلة انها تعكس شيئا ما في الجوار، لكن الصوت الخافت، الذي يشبه رفرفة رقيقة لمجموعة اجنحة عصافير، الصادر من الردهة، جعله ينهض من فراشه ليتأكد مما يسمعه ويراه، وبمجرد خروجه من غرفة النوم لاحظ ان وميض الفلاشات مصدره المطبخ، وتحديدا بجوار موقد الغاز، ولم يدر لماذا شعر بقشعريرة تسري في جسمه، ورغم إنه اضاء الردهة فقد إستمرت اضواء الفلاشات تومض بوضوح، ولاحظ انها أبطأ سرعة من فلاشات الكاميرات، وعندما يختفي بعضها يظهر بعض منها ويصدر الصوت الذي يشبه رفرفة اجنحة عصافير تحلق في الهواء، وتسّمر في مكانه توجسا، ثم ذهب ليغلق جميع النوافذ الخشبية، وعاد وأطفأ أنوار الردهة ثم أضاء كل غرف المنزل، ولم تمح الظلمة التامة أو الاضاءة الكاملة للمنزل اضواء الفلاشات البطيئة ولا صوت رفرفة اجنحة العصافير الخافتة التي سببت له رعبا، زاده رنين الهاتف الذي مزق السكون مرة ثانية وجعل مشاعره تنقبض.
- استاذ ميشال!
- نعم. قال وهو يكاد يترنح من الامور التي جعلته لا يدرك صوت المتحدث.
- انا زاد. اعتذر عن الاتصال في هذا الوقت.
- لا داعي للإعتذار. هل انتِ التي إتصلتِ منذ دقائق؟ ماذا حدث؟
- اتصل بك من مستشفى جونيه العام وانا في منتهى التوتر.
- ماذا حدث؟
- توفى إسماعيل منذ وقت قليل.
- من توفى؟!
- جلال.. إسماعيل.
- إسماعيل؟ هكذا؟! سألها ميشال وهو يمشي بالهاتف اللاسلكي ليطفىء اضواء جميع الغرف بحركة لا إرادية، ووقف في العتمة امام اضواء الفلاشات التي لا مصدر لها بل تضيء بذاتها وهو يستمع الى زاد.
- قال لي أمس انه يشعر ان روحه تسير امامه منذ يومين!
- هل قال لك هذا الكلام؟
- نعم. لم يتوقع احد منّا ان يذهب للغناء في العِرزال كل ليلة سبت حسب ما كان يفعل في الفترة الاخيرة. خصوصا أمس.
- كان يعتقد ان العمل المتواصل سيبعد عنه مصيره.
- نام حتى الثالثة بعد ظهر أمس، ثم إستيقظ وهو في قمة الارهاق والألم، فنصحته بالاتصال بأبيه والاعتذار عن الغناء، لكنه طلب مني الاتصال بطبيبه المعالج.
- وماذا حدث؟
- جاء وأعطاه حقنة مورفين وبعض الدواء المُسّكِن للألم، ثم طلب منه إلغاء الغناء والذهاب إلى المستشفى فورا، لأن حالته تسلتزم ضرورة وجوده فيها.
- هل قال الطبيب لكِ أي شيء آخر؟
- حالته ستتدهور بسرعة كبيرة، وسيموت لأن السرطان إنتشر في كل جسمه كما يبدو. همس لي الطبيب عند الباب.
- وكيف ذهب وغنى؟
- رجوته عدم الغناء والذهاب إلى المستشفى، فتجاهل ما قلته وعاد للنوم، وعند السابعة مساءً رّن المنبه فاستيقظ وحلق ذقنه، وذهب الى تمثال العذراء وأنار شمعة وأشعل عود بخور، وبدأ يرتدي ملابسه وهو يسبّحها بصوت حزين، ثم إتصل بسائقه وقال له إنه مستعد للذهاب وهو في إنتظاره.
- .......
- لقد جعلته العذراء يغني أمس. ماذا كان يمكن ان تفعل له أكثر من ذلك؟
- هذا صحيح.
- قال لي السائق إنه غنى "رَجَعتَ تسأل عني" في نهاية وصلته الغنائية، وعندما خرجا من العِرزال طلب منه الذهاب به إلى أقرب مستشفى، لأنه لا يستطيع ان يقف أو يمشي.
- ليس غريبا ان يغني هذه الأغنية لجوزيف ناصيف. لقد شعر بالنهاية فعلا. قال لها ميشال وهو يغالب دموعه.
- الله يرحمه فعلا. إنني لا أصدق انه مسجى امامي مغطى فاقد الحياة، رغم ان رحيله كان متوقعا.
- الموقف بالغ الصعوبة عليك، لكن هناك حقيقة أخطر وهي يجب ان تتماسكي حتى لا تؤذي الجنين الذي في احشائك. سأكون عندك في المستشفى بعد نصف ساعة.
- إسماعيل هو الرجل الوحيد الذي احببته.
- وانت أول وآخر إمرأة احبها. لقد اخبرني عن الجنين. كان سعيدا جدا.
- انا في قمة التوتر. لا تتأخر ارجوك. وجودك معي سيساعدني كثيرا.
- على فكرة، هل إتصلتِ بأبيه؟
- انت أول إنسان اتصل به. سأتصل بأبيه بعد قليل.
أنهى ميشال المكالمة الهاتفية، وهو يقف امام اضواء الفلاشات، وإحساس مذهل لا يوصف يخدّر روحه وجسده بعدما أفاق تماما من تأثير الخمرة، وهو يتنصت الى الرفرفة الخافتة الصادرة عنها ويحاول ان يلمسها والدموع تنحدر ساخنة من عينيه، بعدما كان يغالبها وهو يتحدث مع زاد، ثم تذكر فجأة الحديث الذي كان دار بينه وبين جلال عند موت احدهما قبل الاخر.
- هل يمكن ان يكون هذا الامر مصادفة! هل هناك شيء ما يبقى؟!
تساءل ميشال وهو يمسح دموعه ويتجه إلى غرفة نومه مرة اخرى ليرتدي ثيابه، وعندما خرج منها ليذهب إلى المستشفى كانت دموعه واضواء الفلاشات ورفرفة اجنحة العاصفير الخافتة لا يزالوا على حالهم، فتردد في الذهاب ليتابع ومضات الاضواء المتراقصة، لكن صوت زاد في عقله جعله يذهب إلى غرفة الاستوديو ويأتي بكاميرا الفيديو، ويضعها على حاملها ويجعل عدستها في مواجهة الفلاشات ويديرها ويذهب إلى المستشفى فجراً، وكأنه يقف على مفترق طرق لا يدري في أي منها يسير.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :