«أنا فخور جداً بهذا اللقاء، حيث التقي بالكثير من أصدقائي، وهو ما يرفع معنوياتي. دائماً أشعر بالفخر والاعتزاز حينما ألتقي العسكريين القدامى» بهذه الكلمات استهل جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين لقاءه بوجهاء عمان، بكل ما تمثله عمان من رمزية في ضمائر الأردنيين، باعتبارها عاصمتهم التي تمثل رمز سيادتهم واستقلالهم، والتي تجسد لحمتهم لأنها تضم بين ضلوعها أردنيين من كل ربوع الوطن، في أروع صورة من صور الاندماج والتمازج الاجتماعي الذي صهرته عمان في بوتقتها التاريخية الممتدة لآلاف السنين، فإذا كان البعض يباهي بحضارته التي تمتد لسبعة آلاف سنة، فإن حضارة عمان أبعد من ذلك بكثير تجذراً في أعماق التاريخ، وثراءً في التجربة الحضارية التي آلت سدانتها لآل البيت، وما أدراك ما آل البيت في تاريخ أمتنا وحضارتنا كعرب ومسلمين، تنبض قلوبنا بحب آل البيت مهما اختلفت مشاربنا ومذاهبنا وأعراقنا، لكنها جميعها تلتقي على حب آل البيت، الذين هم أحد أهم مقومات وحدة الأمة عموماً، وحراس وحدة الأردنيين على وجه الخصوص.
صحيح أن كلمات جلالة الملك في مستهل لقائه مع وجهاء عمان جاءت عفوية وبسيطة، لكنها عميقة الدلالات، تجسد بعفويتها وبساطتها فلسفة حكم ونهج إدارة، فأن يفتخر ملك البلاد بأصدقائه من عامة الناس الذين ليس فيهم من يدعي أن في عروقه دماً أزرقاً، وأنه سليل طبقة نبلاء ووريث إقطاع، بل يفتخرون جميعاً بأنهم من أبناء الطبقة الوسطى من الفلاحين، زراعاً وحراثين، ومن الحرفيين والتجار وفي مقدمة هؤلاء العسكر. أن يفتخر جلالة الملك بصداقاته مع هؤلاء، فإن هذا يُذكر من نسي أن ملوك الأردن عاشوا ويعيشون بين الناس، ومع الناس في همومهم ومعاناتهم، وأولها معاناة الفقر، فنحن مواطنو الدولة التي كان مليكها يستدين من رعيته لينفق على نفسه وعلى الفقراء من رعيته، ونحن مواطنو الدولة التي ماتت ابنة ولي عهدها وحفيدة مؤسسها من داء «ذات الرئة» وشدة البرد والفقر والعوز، لذلك ليس غريباً ولا مستغرباً إحساس ملوك الأردن بالفقراء وليس مستغرباً أن تكون محاربة الفقر والبطالة على رأس أولوياتهم ابتداءً من عبدالله الأول، وصولاً إلى عبدالله الثاني الذي ترجم هذه الحرب على الفقر والبطالة في إعلانه أثناء لقائه مع وجهاء عمان أنه قد آن الأوان للاهتمام بشرق عمان وجنوبها، حيث المناطق الأقل حظاً كما يسميها البعض، والمناطق المكتظة بأبناء العسكر والحرفيين، وكل أبناء الطبقة الوسطى التي بنت الدولة الأردنية، وأمدتها بكل الخبرات الفنية والإدارية، وكل ما احتاجت إليه الدولة لإكمال بنائها والمحافظة على هذا البناء.
وكعادة الصيد من آل هاشم فقد قرن جلالته القول بالعمل، عندما أعلن كل من رئيس الديوان ورئيس هيئة الأركان المشتركة بتكليفٍ من جلالته عن سلسلة من المشاريع التي ستتم المباشرة بتنفيذها في شتى المجالات، لرفع سوية المناطق الشرقية والجنوبية من عمان، في أنصع صورة من صور العدالة بتوزيع مكاسب التنمية والنهوض المتوازن بالمجتمع، دون ان ينسى جلالته أن يخص المبدعين بما يليق بهم من رعاية تنمية لابداعهم وتميزهم.
ومثلما أن كلمة جلالته عكست دلالات عميقة لفلسفة الحكم القائمة على الثقة المتبادلة بين القائد وشعبه، والتي يغذيها ويعززها التواصل المستمر بينهما. فإن مخاطبة جلالته للحضور بقوله: «كثيرٌ منكم خدمنا سوية في القوات الخاصة والدروع، ودائماً أشعر بالفخر والاعتزاز حينما التقي العسكريين» كشفت جانباً آخر وأصيلا من جوانب فلسفة الحكم في الأردن، وهي أن الجندية عند ملوك الأردن وأمراء آل البيت ليست مجرد مراسم واستعراضات، لكنها احتراف واستعداد للقتال دفاعاً عن هيبة الوطن، والواقعات كثيرة في تاريخ الدولة الأردنية التي تبرهن على هذه الحقيقة، وهذه واحدة من أهم أسباب التلاحم بين القائد وشعبه، ذلك أنه ليس هنالك أسمى وأمتن من رفقة السلاح وقد ربطت هذه الرفقة المتينة بين ملوك وأمراء آل البيت وجل الأردنيين، فما من بيت أردني إلا وفيه ضابط أو جندي أو فتى يحلم بالجندية التي تصهر الأردنيين حكاما ومحكومين في بوتقة واحدة من الحب والإخلاص المتبادل، والاعتزاز الذي يرفع المعنويات كما قال جلالته في لقائه مع العمانيين.
كثيرة هي المحطات في كلمات جلالة الملك أثناء لقائه وجهاء عمان، وهي محطات تفرض الوقوف عندها لأنها تصلح كي نستلهم منها برامج عمل وطنية، خاصة على الصعيد الاجتماعي، حيث طرأت اختلالات كثيرة على تقاليدنا وعاداتنا، والسلوك المحسوب على هذه العادات والتقاليد والمشوه لها مثل إطلاق العيارات في المناسبات، وهو الأمر الذي أغضب ويغضب جلالة الملك ،وهو الغضب الذي يعبر عن غضب كل شعبه، لذلك جاء موقف جلالته حازماً حاسماً، بأنه لا تهاون بعد اليوم مع هذه الظاهرة، ولن يكون هناك واسطات أبدًا، فليس هناك من يعتقد أنه ابن فلان أو أن لديه منصب، وقد ضرب جلالته من نفسه مثلاً وقدم بسلوكه نموذجاً يحتذى عندما قال: «حتى لو كان ابني هو من يطلق العيارات النارية سأطلب من الأجهزة الأمنية أن تتخذ معه نفس الإجراءات بهذا الخصوص» وهذا الموقف الملكي يثلج قلوبنا كأردنيين عموماً وقلوبنا نحن أعضاء جماعة عمان لحوارات المستقبل على وجه الخصوص، الذين كنا قد أعلنا قبل لقاء جلالته مع وجهاء عمان بيوم واحد وثيقة التماسك الاجتماعي، التي دعونا فيها إلى التعامل بحزم مع هذه الظاهرة واعتبارها رذيلة اجتماعية يجب أن يتعاون الجميع على محاربتها، ليأتي الموقف الملكي مؤكداً مرة أخرى على وحدة التصور، ووحدة الهم، ووحدة التفكير، الذي يقود إلى وحدة الموقف بين القائد وشعبه في بلدنا، حماه الله من كل مكروه وجعل التفاؤل حادي مسيرته.
الرأي