- وجوهنا وثائق سفرنا، وبعض الأختام «النظامية» ما زالت فوق الجلد ان شئت نكشف لترى...لا تثقل علينا بالأسئلة يا سيدي ، نحن أناس بسطاء لا نبحث عن وطن بل نبحث عن سكن ،لا نبحث عن رايات ولا هتافات ،نبحث عن غناء أم لرضيعها وبعض الهدهدات، نبحث عن رائحة الخبز الطازج و العشب البرّي في الحواكير ، فقد أزكمتنا رائحة البارود والبساطير ..مهلا يا رجل، لا تشح بوجهك عنا ...كنا مثلكم سعداء ،لنا بيوت جميلة، وعائلات نعود إليها آخر النهار، كان لنا في الدار دالية عنب، ونافورة وأولاد صغار...صرنا كالسلاحف بيوتنا على ظهورنا كما ترى..كيس فيه غطاء وماء، وبعض مسكنات الجوع والوجع... فهل تأخذنا بشاحنتك يا سيدي، نحن لا نحدد الوجهة ، خذنا أنت أينما شئت وكيفما شئت...
- (لكنها شاحنة مخصصة للحوم المجمّدة)!!..
لا بأس يا سيدي..نحن اللحوم المجمّدة، نحن الأحلام المجمّدة ،نحن المصالح المجمّدة ، نحن المحادثات المجمّدة ، نحن الشعوب المجمّدة، لا شيء طازج في قضيتنا الا موتنا يا سيدي.... خذنا أرجوك كيفما شئت أينما شئت يقولون أن في النمسا «نجاشيّ» جديد، خذنا إليه... مالنا نراك متردّدا؟ً...قلنا لك نحن نبحث عن سكن لا وطن...نريد بلكونة و حديقة لا حدود ومعابر، نريد «كرفاناً» مسالماً لا وطنا محارباً ...اسمع !!...بصراحة لقد أحببنا شاحنتك..نحن السبعون مهاجراً من بلاد العرب وهذه زوجتي وهذه ابنتي أحلام جميعنا أحببنا شاحنتك ...باختصار لأنها تشبه وطننا بامتياز...صدقني انا لا أجاملك حتى تسمح لنا بالصعود...هي وطننا المصغّر..مكتوب عليها شعار جميل ومرسوم عليها دجاجة !! ووطننا كذلك له شعار جميل ونحن الدجاجة...ماذا قلت؟...هل نصعد الى وطننا الحديدي...صعووود!.
***
في الصندوق الخلفي بدأ المهاجرون يغنون بأصوات دامعة «ليالي الحزن في فيينا»، يتمايلون بأجسادهم المتراصة ،يضحكون، يبكون ، يتقاسمون الكعك اليابس في عتمة الشاحنة و يتقاسمون الأكسجين، كان الحرّ شديداً والطريق بلا نهاية...حاولوا تنبيه السائق أن الأنفاس بدأت تضيق...طرقوا على الجدران الأربعة طويلاً ..كما طرقوا من قبل على جدران الوطن طويلاً ...لكن السائق لم يسمع..فصوت محرك القيادة أعلى بكثير من صوت الاستغاثة..
في لحظة الأفول ، وقفوا في باب الزنزانة المحكم القفول، ينتظرون وقوفاً محتملاً أو يقظة ضمير، لكنهم تساقطوا تباعاً كورق التوت في أيلول...في لحظة الأفول ، هناك في الوطن ذي الست عجلات ..زحف الأب بصغيرته «أحلام»، قطع أنفاسه قليلاً لتعيش أكثر .. دفعها بيده الضعيفة نحو فوهة الهرب..لكن ما لبثت ان ماتت...»أحلام العرب»!.
الرأي